محنة الديمقراطية من أفلاطون إلى الإسلاميين
تتعرض الديمقراطية في نسختها العربية لانتقادات متزايدة، وأنصارها الذين كانوا ينافحون عنها يتناقصون، وقد فترت حماستهم لها وبدؤوا اليوم ينادون بأسبقية «شروط الديمقراطية»، على تطبيق الديمقراطية، وكما يقول طرابيشي في «ثقافة الديمقراطية»: الديمقراطية هي إفراز بنيوي متقدم لمجتمعات متقدمة، وقد فهمت الديمقراطية عندنا بأنها ثمرة برسم القطف لا بذرة برسم الزرع، وأنها الحل السحري لمشكلات المجتمع العربي.ونضيف هنا: إن الديمقراطية ثقافة وقيم وممارسات ينشأ عليها الفرد منذ الصغر قبل أن تكون نظاماً سياسياً، فهي لا تبدأ بشفافية الصندوق الانتخابي بل تربية لا ترى أعلوية الذكر على الأنثى وتعليم منفتح على الآخر وخطاب ديني يحتضن الإنسان لأنه إنسان لا لأنه عربي مسلم، وتشريع لا يفرق بين المواطنين بحسب قبائلهم ومذاهبهم، وقضاء لا يخضع لسلطان أحد، ومناصب ليست حكراً على عائلات معينة، ثم قبل كل ذلك «مجتمع مدني» حارس لقيم الديمقراطية، ديمقراطية العرب اليوم في محنة عظيمة والتحديات كبيرة والإيمان بها قد ضعف كثيراً.
عشنا أجيالاً ونحن نسمع المفكر الكبير داعية الديمقراطية الأكبر خالد محمد خالد يردد على مسامعنا: الديمقراطية أولاً والديمقراطية أخيراً، حتى آمنا بها حلاً سحرياً لمشاكلنا ودواءً ناجعاً لجميع أدوائنا، ثم اكتشفنا أنه لا حل سحرياً لمشكلات المجتمع العربي إلا بتفعيل قول الله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ». التغيير يبدأ من الداخل من رؤى وتصورات وأفكار ومشاعر تكون شخصية الفرد المواطن.يقول مأمون فندي «لماذا نحن في ورطة؟» ويجيب: «البداية هي فشل الدولة الوطنية أو دولة ما بعد الاستعمار– وليست دولة ما بعد الاستقلال كما ندعي لأن الاستقلال لم يتحقق– فشلت تلك الدولة في أول صفقة عقدتها مع مجتمعاتها، طلبت منا دولة ما بعد الاستعمار التخلي عن حقوقنا السياسية مقابل تحسين أوضاعنا الاقتصادية وانتظرنا 60 عاماً، تكاثرنا وأصبحنا 85 مليوناً نصفهم من العاطلين، النتيجة بعد الصبر والحروب كانت فقراً مدقعاً وصحة بائسة وتعليماً مخجلاً».لا الوحدة العربية كانت حلاً ولا الاشتراكية ولا الديمقراطية، اليوم يقال للجماهير العربية: الإسلام هو الحل والإسلاميون هم المخلصون الذين يقودون مجتمعاتنا، ويعبرون بها إلى عالم المزدهرين، أتمنى أن يكون ذلك صحيحاً ولا تصدم الجماهير كما صدمت من قبل على أيدي الناصريين والبعثيين والاشتراكيين والعسكر، لكن كل المؤشرات في الساحة لا تبشر بمستقبل واعد!لقد أفرزت الصناديق الانتخابية في معظم البلاد العربية صعود أكثرية طائفية وقبلية وأيديولوجية ذات انتماءات وولاءات ضيقة لا تؤمن بمبدأ المواطنة المتساوية للجميع، وهذه القوى أصبحت لها الأكثرية في البرلمانات، وبعضها أصبحت حاكمة ومهيمنة على مفاصل الدولة والمجتمع، أو في طريقها للاستحواذ الشامل، فهل ينتظر منها تلك النقلة السحرية إلى عالم الحداثة؟! ما حصل ويحصل اليوم في الفضاء العربي هو بعض نتائج الصندوق الانتخابي الشفاف الذي كنا ننادي به ونحلم به كثيراً، ترى أين الخلل؟ هل هو في الصندوق أو في صاحب الصندوق؟ أعود لأقول إن الديمقراطية في محنة وهي محنة قديمة قدم التجربة الديمقراطية في أثينا في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد عندما نعى أفلاطون على الإثنيين ديمقراطيتهم لأنها ساوت بين الصالح والطالح، وهذا يناقض في رأيه العدالة التي تقضي بإعطاء كل فرد ما يستحقه بحسب الثروة والمولد والعلم.وتعرضت الديمقراطية في العصر الحديث لهجمة شديدة من منظري الماركسية الذين رأوا في البرلمانات مجرد نواد للسفسطة الفارغة، ونادوا بدكتاتورية البروليتاريا، واليوم يواجه الإسلاميون الصاعدون التجربة الديمقراطية ويؤيدون قبولاً شعبياً واسعاً، فهل يؤمنون بالديمقراطية حقاً؟ وهل يلتزمون بها حقيقة؟ أم يريدونها على طريقتهم «ديمقراطية متأسلمة» تقوم على مرجعية الفقيه المفتي حاكماً في الشأن العام؟ مرشح الإخوان يبذل اليوم وعوداً ويدلي بالتصريحات ويكثر من «التطمينات» بضمان حقوق الأقباط والنساء، وأكثر ما أخشاه أن تكون وعوداً للاستهلاك الانتخابي تتلاشى آثارها بانتهاء اللعبة، إذ لا يزال البناء الأيديولوجي والثقافي الصلب متحكماً بالذهنية الجمعية لجماعة الإخوان كبرى حركات الإسلام السياسي، كيف تطمئن الجماهير؟ وكيف يثق دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع الدولي بهذه الوعود إذا كانت رموز إخوانية بارزة وخطباء مساجد جميعاً يرفضون مبدأ «حياد المساجد» في الدعاية الانتخابية؟!هناك قانون صريح وتعليمات مشددة بإبعاد منابر بيوت الله تعالى عن المهاترات الانتخابية، ومع ذلك يصر هؤلاء على القول: هذه مساجدنا، ونحن أعلم بمن يصلح للمسلمين! إذا كان الإخوان قد فشلوا في ضمان «حياد المساجد» سياسياً، وهم لم يصلوا إلى الحكم بعد، فهل يضمنون «حياد الدولة» بين المواطنين إذا وصلوا إليه؟!إذا رفضوا اليوم أن يتعاملوا بالأسلوب الديمقراطي والروح الديمقراطية ومبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين واستباحوا المساجد واستغلوا سلاح الفتوى ضد المرشح المنافس، فهل نضمن حكماً ديمقراطياً منهم؟! رمز إخواني كبير رفض بيان الأزهر الشريف الذي أكد وقوف الأزهر على الحياد بين المرشحين بحجة أنه لا حياد بين حق وباطل! فما يراه فضيلته هو الحق المطلق لا معقب عليه! كيف يستقيم المنطق الديمقراطي مع هذا المنطق الإقصائي الاستعلائي؟!ومن قبله رفض خطيب الإخوان بالإسكندرية الشيخ المحلاوي قانون حظر استخدام المساجد في الدعاية الانتخابية بحجة أن المسجد مسجده وهو حر في الدعاية لمرشحه، ولا سلطان لأحد عليه، وعندما اعترض أحد المصلين أمر بإلقائه خارجاً! إذا كان هذا الشيخ جباراً وهو على منبر بيت الله تعالى فكيف إذا وصل مرشحه إلى الرئاسة؟! فهل تبقى الديمقراطية قائمة؟ ترى ما الحل؟يطالب د. عمر عبدالعزيز بأنسنة الديمقراطية الليبرالية، ويرى أن الديمقراطية في واقعنا أشبه ما تكون بالحمية القسرية، مثل المريض الذي يخرج من حالة مرض فيدخل في حمية فيحصل عنده نوع من ردة الفعل الداخلي، حتى إن جسمه لا يتقبل هذا الضنى، لكن السؤال: ما السبيل لأنسنة الديمقراطية في ظل الإسلاميين الحاكمين وقد عجزوا عن أنسنة الخطاب الديني نفسه من قبل؟!وأخيراً: يرى ماجد كيالي في مقالته المتميزة «بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية» بعد أن أعياه الحل مع المشكلات التي تعطل معنى الديمقراطية في الأرض العربية، أن الديمقراطية الدستورية المقترنة بضمانات الحرية والحقوق السياسية المتساوية لجميع المواطنين باعتبارها قيما عليا يتم النص عليها دستوراً، هي الحل على الرغم من مشكلاتها ونواقصها.* كاتب قطري