اجتياح فني ذكي وسلمي سيطر على المنطقة العربية كلها عبر غزو المسلسلات التلفزيونية التركية، التي تمكنت من تغيير ذوق المشاهد العربي بشكل قوي وباتت لديها سلطة مطلقة في التحكم بذوق وذائقة المشاهد العربي، مما منحها الفرصة القوية لاحتلال الصدارة في المشاهدات التلفزيونية العربية التي جاءت على حساب المسلسلات العربية وتناقص متابعيها وإنتاجها والطلب على شرائها وتوزيعها.

Ad

وقد ساعد على ذلك تفجر ثورات الربيع العربي في أغلب المناطق العربية، ومنها مناطق الإنتاج التلفزيوني مثل مصر وسورية، وهما مناطق الإنتاج الأكثر تضررا، مما منح الإنتاج الفني التركي فرصة ذهبية لازدياد الطلب على أعماله الفنية، بحيث باتت القنوات التلفزيونية العربية المهمة والكبيرة والصغيرة كلها تبث على مدار الساعة مسلسلات تركية، حتى بات البث لها يعادل 70 في المئة من عرض البرامج اليومية، مما جعل المشاهدين في حالة إدمان لها.

ولم يقف الأمر عند إدمان المشاهدة بل تخطاه وتعداه إلى المجال الأوسع والأرحب والأكثر ذكاء وجدوى، ولأول مرة يكون للفن هذا الدور الريادي في تحقيق جدوى اقتصادية عجيبة انعكست في مردود مادي كبير جاء من ارتفاع معدل السياحة العربية وارتفاع الطلب على شراء العقارات في مختلف المناطق التركية، وازدياد حجم التبادل التجاري بين الدول العربية وتركيا، سواء كان هذا التبادل التجاري ما بين الدول أو ما بين الأفراد، إلى جانب هذا الانفتاح الكبير على الثقافة التركية المتمثلة في هذا الاجتياح الفني للمسلسلات التركية الذي هو في رأيي نصر كبير يتحقق لأول مرة عن طريق الغزو والترويج الفني من دون إراقة نقطة دم واحدة.

المسلسلات التركية تمكنت بحق من الفن الدرامي بشكل تحسد عليه، وبجودة لا يمكن أن نجدها لدى المسلسلات العربية، فالدراما التركية شديدة الحيوية لا تسير بخط واحد لاهث يركض ليفك عقدة النهاية فقط، بل تشتغل على عدة عقد تتضارب مع بعضها البعض، ولا تمكن المشاهد بأي حال من الأحوال بتوقع ما سوف يحدث فيها، ولا تمنحه فرصة لالتقاط أنفاسه، فهي تعمل بعكس كل توقعاته، مما يكسبها دينامية غير عادية في كل مشهد من مشاهد المسلسل وتفاصيله المتلاحقة بالرغم من طولها إلا إنها متحكمة بتماسك جودة الحلقات كي لا تقع في الترهل والملل، كما أن التصوير كله خارجي لا يعتمد على ملل الاستديوهات المصطنعة، والتصوير الخارجي لهذا البلد الجميل في تضاريسه المتنوعة التي تمنح كل مشهد إضافة عجيبة في المكان بحيث يشعر الرائي بالراحة والانبساط في وسط هذه الطبيعة الرائعة التي تروج تماماً للذهاب إليها والتمتع في مشاهدتها، وذلك بعكس المسلسلات العربية التي لا تتيح للمتفرج إلا الشعور بضيق المكان واختناقه بالناس وبالضجيج والبؤس، فالمشاهد يتم تصويرها في استوديوهات معدة وفق خطة إنتاجية فقيرة ومحدودة، وذلك لتوفير النفقات واختصارها كي تدفع كأجور للممثلين الكبار.

ومع كثرة وغزارة مساحة عرضها في الشاشات العربية إلا أني لم أتمكن من متابعتها بشكل يمكنني من اكتشاف كامل أسرار أسباب نجاحها وسيطرتها على المشاهد العربي، ولكن من خلال مشاهدتي لعملين منها، استطعت تكوين فكرة عامة عن أسباب سر نجاحها، فمنذ سنتين شاهدت مسلسل «مرنا وخليل» وفي هذا العام تابعت مسلسل «فاطمة جول» الذي يعالج فكرة الاغتصاب، حيث تتعرض فاطمة جول لاغتصاب من قبل 3 شباب أثرياء سكارى في ليلة خطبة أحدهم.

والمسلسل عبر حلقاته كلها يعالج بعمق حالة المغتصبة ويسبر أحاسيسها، ولا يمر مروراً سريعاً على واقعة الاغتصاب مثلما يحدث في المسلسلات العربية، فهذه أول مرة أشاهد فيها عملاً يغوص في داخل وجع وإحساس المغتصب الذي لا يمكن أن يبرأ جرحه وتشفى آلامه مهما مر عليها من زمن.

المسلسل تمكن من طرح هذه القضية المؤلمة بعمق وشفافية ومعالجة تحاول أن تبين للرأي العام مدى الظلم ومقدار الأذى الذي يتعرض له هؤلاء الذين أصابهم جرح لا يبرأ ولا يندمل حتى بمرور الزمن وتلقي العقاب العادل.

المسلسلات التركية تبين أيضاً مدى هذا الترابط الثقافي ما بين العالم العربي والتركي في العادات والتقاليد والدين المشترك، وحتى قاموس اللغة التركية ممتلئ بالمفردات العربية التي لا نعلم لمن يعود أصلها.