لم تلج أوروبا عصر النهضة ثم التنوير ثم الحداثة إلا بعد خوضها ثورات ومعارك فكرية مضنية بدأت بمحاربة الأصولية والتعصب الديني التي كانت العصور الوسطى المظلمة ترزح في غياهبها، ليبدأ عصر النهضة والإصلاح الديني في القرن السادس عشر، وليعبد الطريق لعصر التنوير في القرن الثامن عشر الذي ترسخت خلاله مفاهيم التسامح والتعايش وحرية الاعتقاد والضمير وحق الاختلاف في التفسيرات البشرية للنصوص. كانت ولادة عصر النهضة ولادة عسيرة دام مخاضها سنوات، فلم يكن من السهل تحطيم الأوثان التي ترسخت في الأذهان طوال ألف سنة من العصور الوسطى. وقد جاءت حركة الإصلاح الديني، التي قادها مصلحون دينيون كأستاذ علم اللاهوت الألماني مارتن لوثر، من داخل المنظومة الدينية، فانتقد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وسلطاتها المطلقة وممارساتها الاستبدادية، واتهم البابا ورجال الدين باستغلال العاطفة الدينية السائدة واستخدام الدين للسيطرة وبيع صكوك الغفران، كما استنكر إحراق "المارقين" والتنكيل بهم... لتنتشر في أوروبا حركة الإصلاح البروتستانتي التي أسسها لوثر، فسعت إلى تحرير الفرد والمجتمع من هيمنة المرجعية البابوية واحتكارها للاجتهاد الديني وادعائها لتفويض الخالق، ودعت لفصل الكنيسة وسلطة رجال الدين عن السلطة المدنية (وليس فصل الدين عن المجتمع)، وسعت إلى إعادة رجال الدين إلى داخل جدران الكنيسة، ونقضت مفهوم الوساطة بين الله والناس، التي استخدمت للمتاجرة بالدين، وأدت لا محالة إلى الجمود والخنوع والخوف وإلغاء العقول. لتنقسم أوروبا إلى قسمين: بلاد بروتستانتية وبلاد كاثوليكية متزمتة ومرجعيتها البابا في روما. ولتندلع الحروب الأهلية التي كان فيها القتل على الهوية، كما استمرت الحروب الطائفية المدمرة بين تلك البلدان التي غرقت في أنهار الدم سنوات طويلة. لقد تعلمت أوروبا دروساً لن تنساها بعد أن مزقتها الأصولية والتعصب الديني الذي أدى إلى نشوب الحروب الطائفية، وقد ساعد هذه الحركة ظهور فلاسفة ومفكرين كان لهم أثر كبير في تلك الفترة الانتقالية العصيبة في تحرير العقول ونزع السلاسل الصدئة عنها، تطلبت مهمتهم الشاقة المضنية جرأة وشجاعة وكسر حاجز الخوف والتخلي عن الطمأنينة وسط حملات التنكيل والاضطهاد والنبذ والشتم واللعن. أحد فلاسفة عصر النهضة هو سبينوزا الذي هاجرت عائلته اليهودية من البرتغال الكاثوليكية إلى هولندا البروتستانتية هرباً من الاضطهاد المسيحي لليهود. هاجم الأصوليون سبينوزا "الذي كان يلزم أن يمر قرنان من الزمن لكي يُستوعب ويُفهم"، حسب وصف هاشم صالح، وفصله الحاخامات من أمة بني إسرائيل، وأصدروا فتاوى اللعن والمنع من معرفته أو قراءة كتبه، ونبذوه ونعتوه بالكفر والزندقة، لأنه ثار على المنطق القديم لرجال الدين وآرائهم المسبقة والمتعصبة التي يريدون فرضها على الجميع، ودعا إلى العقلانية في تفسير النصوص وفك الارتباط بين رجال الدين والسياسة، وشكك في مشروعية الأنظمة الفاسدة التي تستغل الدين للتخويف والاستعباد والإخضاع. وقد تساءل سبينوزا (كما جاء في كتاب مدخل إلى التنوير الأوروبي لهاشم صالح)، وهو تساؤل لايزال ينطبق على عالمنا الذي لم ينهض بعد، "لماذا يناضل الشعب من أجل عبوديته كما لو كانت هي الحرية؟". لقد نهضت أوروبا حين هزمت الأصولية والتعصب الديني، تلك هي المعركة الكبرى والثورة الفكرية الأهم التي غيرت وجه أوروبا المظلم التي لم تكن تطيق الاختلاف فحرمته وكفرته وهرطقته وزندقته، حتى غرقت في أصوليتها وتعصبها وحروبها المذهبية إلى دول استطاعت أن تحقق السلم المجتمعي والتعايش... بعد أن أشرقت في سمائها شمس الحرية: حرية الاختلاف والتعبير والاعتقاد والضمير.
أخر كلام
النهضة هي الثورة على الأصولية
23-03-2012