الحكومة الشعبية... كارثة
كنت قد نويت الكتابة في هذا الأسبوع عن أساس الخلل في البلد، والذي أعتقد أنه غائب عن الكثيرين، ويبدو أنني محظوظ جداً، لأن الموضوع جاء في وقته المناسب بعد تعالي أصوات بعض نواب الأغلبية بالمطالبة بتعديل الدستور نحو التحول إلى حكومة شعبية برئيس شعبي وزيادة عدد النواب.فمن السذاجة الاعتقاد بأن أصل المشاكل والفساد هو في وجود حكومة غير منتخبة وفي عدم كفاية عدد النواب. ومع أن الوضع الحالي غير مثالي، فإن أصل المشاكل والفساد يكمن في نظام الدولة الريعية الذي دمر البلد، وقتل الطموح في نفوس المواطنين.
فمن خلال هذا النظام استحوذت الدولة على إدارة الاقتصاد وتشغيله وباتت تضمن للمواطنين كل سبل العيش المترف من ضمان للوظائف بجهاز حكومي متضخم وغير منتج تخلق فيه الوظائف والبيروقراطيات، لا لحاجة سوى تكديس المواطنين فيها، إلى دعم السلع مثل الكهرباء والماء التي يدفع المواطن أقل من 5د من تكلفتها الحقيقية (هذا إن دفعها أصلاً).فبسبب هذا النظام انشغل الجميع بالصراع الطبقي والطائفي داخل أروقة الحكومة للسيطرة على مقدرات الدولة، وبات النواب إحدى أدوات هذا الصراع. وبات جل إيرادات الدولة يصرف على رواتب المواطنين ودعم حياتهم المرفهة دون إنتاج يذكر، ودون أي قيمة مضافة للاقتصاد. ونتيجة لذلك صارت مهمة الجهاز التعليمي بمراحله المختلفة توزيع الدرجات على الطلبة ليتحولوا إلى بطالة مقنعة في الوزارات، بينما في الغرب تكون مهمة التعليم خلق مبتكرين ومبدعين يشكلون قيمة مضافة للاقتصاد المحلي. فصرنا بذلك كشركة ذات رأسمال كبير، وبدلاً من استثماره نجد أنفسنا نوزعه سنوياً كأرباح وهمية، بينما يتم استثمار جزء قليل جداً منه، أي أننا نأكل من اللحم الحي سنوياً، وكأن هذا اللحم لن ينتهي في يوم من الأيام. فمآل أي شركة تسلك مثل هذا النموذج هو الإفلاس عاجلا أم آجلا.وما دامت الوظائف مؤمنة بغض النظر عن الإنتاج والحضور والغياب، فمن الطبيعي أن ينتخب المواطن ابن عمه أو ابن طائفته أو قبيلته، بغض النظر عن كفاءته أو كفاءتها- وساهم في ذلك تنامي العصبيات القبلية والطائفية التي رعتها السلطة منذ ثلاثة عقود- أو حتى بيع صوته مقابل حفنة من الدنانير، فبالنهاية العملية «مو فارقة»، لأنه سواء أتى إلى المجلس 50 عبقرياً أو 50 جاهلاً فالوظيفة والمعاش مستمران، بينما في الغرب يدرك الناخب أنه يضع وظيفته ورزقه على المحك، وهو أمام ورقة الاقتراع، لأن الحكومة التي ينتخبها قد تخلق وظائف أو تعدمها حسب إدارتها للاقتصاد. ونتيجة لهذا الواقع، فلا عجب أنه بعد 50 سنة من الحياة السياسية في الكويت، يصل أحدهم إلى المجلس بفضل «تكفون... أنا بوجيهكم»!ولذلك، كل التعديلات الدستورية المقترحة لن تجدي نفعاً في تغيير الواقع والمضي في طريق الإصلاح الحقيقي، لأنها لا تعالج الأساس كما شرحنا، لكن على العكس ستؤدي إلى نتائج عكسية، لأنه عندما تكون الحكومة شعبية ومنتخبة ستكون خاضعة للصوت الشعبي الذي أوصلها إلى الحكم، والذي يحكمها هوس الشفط والاستهلاك دون إنتاج، ولذلك لن تستطيع الحكومة معالجة الاختلالات الهيكلية الكبيرة في اقتصاد الدولة، ولن يستطيع الأعضاء المنتخبون تحمل المسؤولية، وقد رأينا ذلك جلياً حين طلبت الأغلبية الحالية تسعة وزراء في الحكومة كشرط للمشاركة، فهي كانت تدرك أن مثل هذا الطلب سيرفض، لكنها أصرت عليه حتى تُخلي ساحتها أمام الرأي العام، بينما هم يعرفون تماماً أنهم لن يستطيعوا إصلاح شيء عندما يؤول إليهم الحكم، لأنهم ببساطة خاضعون لطلبات ناخبيهم من واسطات وكوادر عبثية وزيادة الصرف والإنفاق الاستهلاكي، وسيفقدون مقاعدهم عند أي محاولة جادة لضبط الزيادة الجنونية في الميزانية سنوياً.فإذا كانت الحكومة غير المنتخبة لم تستطع كبح جماح الصرف الجنوني، فهل ستستطيع حكومة منتخبة القيام بذلك؟ أم أننا سنشهد زيادة مطردة في الصرف وزيادة الرواتب والعلاج بالخارج؟إذن يا سادة «الأغلبية» كفاكم ضحكاً على الذقون ومحاولة حرق المراحل بمقترحاتكم الخادعة، فهذه التعديلات المقترحة ما هي إلا محاولة للتغطية على فشلكم حتى الآن، بالإيفاء بوعودكم الانتخابية الإصلاحية التي تحولت بقدرة قادر إلى محاولات لوأد الحريات، وإقحامنا في الصراعات الإقليمية على حساب المصلحة العليا للبلد، وما هي إلا محاولة أخرى لخداع الناس كما خدعتموهم أثناء الانتخابات، وورقة مساومة لقضية تعرفونها جيداً!