صدمت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية المصرية الكثيرين، خصوصاً شباب الثورة والمنتمين لها والمتعاطفين معها، الذين اعتبروا أن وصول مرشحين اثنين لجولة الإعادة؛ أحدهما يمثل جماعة "الإخوان المسلمين"، وثانيهما يمثل نظام مبارك، بمنزلة نكسة للثورة وتبديد لها.
سيكون ملايين من المصريين مضطرين في منتصف الشهر المقبل للاختيار بين الدكتور محمد مرسي رئيس حزب "الحرية والعدالة" المنبثق عن جماعة "الإخوان المسلمين"، وعسكري شغل منصب رئيس الوزراء في آخر أيام مبارك، هو الفريق أحمد شفيق، بعدما كانوا يأملون في انتخاب رئيس يجسد أهداف الثورة التي لا خلاف عليها، ويحافظ على مسارها، في أعقاب الإنهاك الكبير الذي تعرضت له على مدى نحو 15 شهراً.إنها تبدو نهاية محبطة جداً للثوار، الذين حلموا بتكوين مؤسسات دستورية، تعبر عن أهداف الثورة التي جسدتها شعاراتها (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية)، والتي بدت حين انطلقت أبعد ما تكون عن برلمان مرتهن تماماً لجماعات سياسية شديدة المحافظة ذات إسناد ديني، وبالتأكيد أكثر ابتعاداً عن رئيس يمثل المؤسسة العسكرية أو الاستبداد الذي يتكئ على الدين.ورغم هذا الإحباط الذي أصاب الكثيرين، فإن ثمة جوانب إيجابية عديدة في ما جرى، وثمة فرصا يمكن البناء عليها، وبالتالي إنقاذ الثورة من الهزيمة المحققة. فقد دخل الشعب المصري مرحلة جديدة في تاريخه الممتد لآلاف السنين؛ إذ استطاع، بفضل دماء الشهداء وتضحياتهم النبيلة، أن ينتخب رئيسه بنفسه للمرة الأولى، في انتخابات حرة شهد العالم بنزاهتها، رغم المشكلات والانتهاكات التي حصلت فيها، والتي لم تؤثر تأثيراً جوهرياً في نتائجها. عادت مصر لتكون دولة رائدة وملهمة في منطقتها وقارتها بحق، وبعدما كانت أول من أسس الدولة في هذا الجزء من العالم، وأول من أنشأ البرلمان، وأول من أقام الجيش الوطني، وأول من نقل المنطقة إلى الحداثة، ها هي تعود لتصنع التاريخ من جديد، لتكون أول من يجري انتخابات رئاسية نزيهة، إلى درجة لا يملك أي إنسان أو أي جهة، مهما امتلكت من وسائل وأدوات، القدرة على التنبؤ بنتائجها.أصبح الشعب المصري مهتماً بالسياسة مجدداً، بعد عقود من الإلهاء والتسكع بين كرة القدم والقضايا الاجتماعية الثانوية، وبات أكثر رغبة في الإلمام بالتطورات الحيوية التي تقع في محيطه، وأكثر دأباً على التقصي والاستفسار، والانخراط في النقاش الجمعي لبلورة الآراء والتوجهات إزاء الشأن العام. وضع الشعب المصري خطاً أحمر لأي رئيس سيصل إلى سدة الحكم، واستطاع أن يعيد صياغة التوصيف الوظيفي لمن يشغل هذا الموقع المهم. ورغم عدم وجود دستور مكتمل بصلاحيات الرئيس المنتظر، فإن العقد الاجتماعي تم إبرامه بالفعل، بحيث سيدرك الرئيس القادم، مهما كان عدد الأصوات بحوزته، أنه مطالب بمراعاة شروط ذلك العقد، وأول بند فيه أنه ليس أكثر من مُستخدم لدى الشعب، الذي سيمكنه دائماً محاسبته ومساءلته وانتقاده وإخضاع أدائه وأداء معاونيه للتقييم.صحيح أن مرشحاً ثورياً لم يصل إلى القصر الرئاسي، لكن مجموع الأصوات التي مُنحت للثورة وممثليها كان هو الأكبر على الإطلاق، ولولا أن المرشحين المحسوبين على الثورة والمنطلقين من أهدافها وتحت شعاراتها فشلوا في التوافق على الانخراط في فريق رئاسي واحد، لكان أحدهم في طريقه لتسلم المنصب المهم الآن.ومع ذلك، يمكن القول إن الثورة كسبت مكسباً عزيزاً في هذه الجولة الانتخابية؛ فقد بات لها وجه، يمكنه الحديث باسمها، والحشد لأجلها، والدفاع عن مصالحها، وإبقاء جذوتها حية، وتحويلها من طاقة للإلهام يمكن أن تبددها الحركة العشوائية والتضارب والتشتت، إلى حركة سياسية على الأرض، يمكنها أن تتطور وتنمو، لتتحول كياناً قادراً على المنافسة على الوصول إلى مراكز الحكم وتكوين المؤسسات الدستورية والضغط على صناع القرار أو المشاركة في صنعه.فمن بين المرشحين الخمسة الذين تصدروا النتائج في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، بدا أن حمدين صباحي الأكثر تعبيراً عن ثورة يناير بأهدافها وملامحها وتفاصيلها كافة، ورغم أنه كان الأقل بينهم إنفاقاً على حملته الدعائية، فإنه حصد عدداً كبيراً من الأصوات، بشكل أجبر منافسيه على احترامه، وقلل من المرارة التي انتابت أنصاره.وُلد حمدين صباحي قبل 58 عاماً لأب فلاح بسيط في محافظة كفر الشيخ بدلتا النيل، ليكون الوحيد بين أخوته الـ11 الذي يتم تعليمه الجامعي، حيث درس في كلية الإعلام جامعة القاهرة، ونشط خلال دراسته فيها كأحد أهم قيادات الحركة الطلابية في سبعينيات القرن الفائت.ظل حمدين مخلصاً لناصريته منذ وقف أمام الرئيس الراحل أنور السادات يجادله بثبات، منتقداً سياساته الانفتاحية وطريقة إدارته للعلاقات مع إسرائيل، وقد شكل حزب "الكرامة" الناصري، وانتخب عضواً في مجلس الشعب لدورتين، رغم أجواء المعاندة والتزوير التي هيمنت على الانتخابات البرلمانية في ذلك الوقت.لكن المقربين لحمدين يعرفون أنه بات يمثل تياراً سياسياً يحترم الناصرية لكنه أكثر اتساعاً منها، فقد خطا هذا السياسي خطوة واضحة نحو الوسط، لكنه ظل متمسكاً بالاقتراب اليساري عموماً، ومحترماً المناقب الناصرية المتمثلة في الاستقامة والكرامة الوطنية والانحياز للطبقات الأفقر والحرص على الاستقلال الوطني، في وقت يحرص فيه على تفادي أخطاء الحقبة الناصرية المتمثلة في القمع وتقييد الحريات من جهة، والإدارة المنفردة للدولة من جهة ثانية، والابتعاد عن الحنكة والتقدير السليم في بعض الأحيان في إدارة السياسة الخارجية من جهة ثالثة.سيمكن لحمدين صباحي الآن أن يُكّون تياراً أو حزباً أو حركة سياسية واسعة، ستكون الأكثر التصاقاً بالثورة والأجدر بالتعبير عنها، وستضم إليها الثوار والمتعاطفين معهم ومع أهدافهم، كما ستتسع لتشمل تيار الوسط، ويسار الوسط، وستجهز لمنافسات انتخابية مقبلة، ستكون فرص الفوز بها أكبر. لم تُهزم ثورة يناير كما يعتقد البعض لأنها لا تنافس على مقعد رئيس الدولة، بعدما خسرت البرلمان ولجنة إعداد الدستور، لكنها ستُهزم من دون شك إذا بددت هذا الزخم الذي تحقق في الجولة الرئاسية الأولى، أو إذا انطوت تحت فائز بأولويات غير تلك التي تجسدها، والتي قامت من أجلها، ونزف الشبان المخلصون لتحقيقها.دخلت مصر نفقاً بسبب أخطاء إدارة المرحلة الانتقالية، وعشوائية الثوار وتشرذمهم، وكيد الفلول، وممانعة الدولة العميقة، وانتهازية بعض المحسوبين على الإسلام السياسي، لكن هناك ضوءاً في نهاية هذا النفق، سيمكنها أن تدركه، إذا عوضت الثورة ما فاتها، وتمسكت بما حققته، وواصلت البناء عليه.* كاتب مصري
مقالات
هل انهزمت الثورة المصرية؟
27-05-2012