جلس إلى جانبي في الطائرة، كان شاباً طويلاً وسيماً يرتدي بذلة، ولم تكن هيئته وملامحه تدل على أنه كويتي. بعد محادثة قصيرة سألته عن سبب زيارته للكويت فأجاب أنه يعمل هنا. قابلني بذات السؤال فقلت له إني كويتي، تبسّم ضاحكاً وهو يقول: هل تصدق أني قد أكون كويتياً أكثر منك! فاجأني تعليقه، فقلت: كيف؟ قال: واضح أني أكبر منك في العمر، لقد ولدت في شرق قبل أكثر من خمسة وأربعين عاماً، وتنفست هواء الكويت ومشيت على ترابها سنوات طويلة، وتلقيت بعدها تعليمي كله فيها، حتى خرجت مع من خرجوا في فترة الغزو والتحرير، بعد أن تم تصنيفنا على أننا رعايا ما سُمي آنذاك دول الضد. قصدت أميركا، وهناك استقر بي المقام فتزوجت وحصلت على الجنسية الأميركية وتحول اسمي من داوود إلى ديفيد، ودار الزمان لأعود إلى الكويت وأتسلم رئاسة إحدى الإدارات في شركة من شركات الاستثمار.

Ad

قضى ديفيد بقية الحوار معي في التحسر على ما آلت إليه أحوال بلده الكويت على المستويين الاقتصادي والإداري.

يقول إن الكويت لا تعاني أي مشكلة في القدرات المالية، ولا في نقص الكفاءات والكوادر، ولا ينقص أبناؤها الذكاء حتى تصبح واحدة من أكثر دول العالم تطوراً ورقياً، لكن ما ينقصها الإرادة الصادقة والإخلاص من أبنائها تجاهها، والعمل الدؤوب للوصول بها إلى ذلك المستوى.

ما قاله لي داوود، ذلك العربي الذي خرج من الكويت مغضوباً عليه، وعاد إليها ديفيد الأميركي الذي صارت بوابات المطارات العربية "تضرب له تعظيم سلام"، جعلني أسترجع من ذاكرتي كلمات قرأتها في أحد المنتديات بما معناه أن الولاء لأي بلد ليس كلمة تقال في العلن، ولا ورقة يحملها المرء في جيبه، وإنما فعل إرادي وممارسة حقيقية.

الولاء أن تحترم القانون وتتبع تعليماته حتى لو كنت لا تخشى العقوبة، وحتى لو لم يكن يراك أحد. الولاء أن تعطي وتخلص في عملك حتى لو لم يسألك أحد. الولاء أن تقدم مصلحة بلادك على مصلحتك الشخصية. هذا هو الولاء.

هنالك عبارة شائعة تقول: "جميل أن يموت الإنسان لأجل وطنه، لكن الأجمل أن يحيا لأجل هذا الوطن". صدق القائل، ففعلاً من الجميل أن يموت الإنسان شهيداً لأجل وطنه، لكنه أمر قد لا يسنح لكل إنسان أن ينال شرفه، لذا فالأجمل حقاً أن يكرس الإنسان حياته لأجل وطنه، وهذا هو الحب الحقيقي، وهذا هو الولاء الحقيقي، الذي هو أمر متاح للناس كلهم.

الولاء لا علاقة له بالأصل، لأنه ليس عرقاً أو دماً يعود بالمرء إلى عائلة أو عشيرة أو قبيلة تعيش على هذه الأرض منذ قديم الزمان، وإنما هو شيء أكبر وأعمق، لذا فلينظر كل واحد منّا إلى نفسه، وإلى مقادير عطائه وإخلاصه في عمله، وإلى مقادير احترامه لقوانين بلده ونظمها، ومقادير انشغاله بهمومها وآلامها، وحرصه على السعي إلى تنفيذ آمالها، وحينئذ سيعرف أين تقع درجته على سلم الولاء.