يبدو أن لجنة جائزة البوكر العربية لعام 2011 قد اختارت الروايات ذات الخط التقليدي في كتابة الرواية، وابتعدت عن الروايات ذات التقنيات الحديثة، فمن رواية "دروز بلجراد" التي فازت بجائزة البوكر إلى رواية "دمية النار" و"شريد المنازل" وهما من القائمة القصيرة، كلها روايات ذات خط تقليدي في نمط الكتابة الروائية التي ابتعدت تماما عن استعمال تقنيات حداثية في الكتابة، وسارت على خط سردي بصوت الراوي أو شخصية واحدة تحكي تفاصيل الحدوثة كلها، من أول الحدث حتى نهايته بشكل سرد تراتبي متواصل، مما أوقعها في التطويل والرتابة والملل، والشعور بأنها ذات أسلوب قديم لم يعد يتماشى مع شكل الرواية الحديثة المفعمة بالحركة والحيوية الناتجة من ديناميكية التقنية المفجرة للنص.

Ad

وبقيت معي رواية "نساء البساتين" و"العاطل" اللتان لم أقرأهما بعد حتى أعطي رأيي فيهما، وإن كانتا من ذات النمط السابق ذكره أو مختلفتين، وسآتي على ذكرهما في مقالات قادمة.

والسؤال الذي خطر في بالي هو: هل ذوق لجنة التحكيم هو الذي يحدد قيمة العمل الفائز أم هو جدارة العمل ذاته، بمعنى أنه يحدد العمل بحسب ذوقها وتذوقها، فلو مثلا كانت اللجنة ذات طبيعة لا تميل إلى الشكل الحداثي في الأعمال الروائية، فإنها ستختار الروايات ذات الأسلوب التقليدي القديم في الكتابة وترفض كل الحديث منها، وبالتالي سُتظلم كل الكتابات التي لا تنتمي إلى هذا الذوق، والعكس من ذلك سيحصل لو جاءت لجنة تميل إلى الكتابة ذات الشكل الحديث وتكره الشكل القديم منها؟

لهذا أتساءل عن ماهية معيار الاختيار العادل الذي يحدد قيمة وجودة العمل الروائي من دون أن تؤثر في هذا التحكيم ذائقة المحكمين وتفضيلهم لأسلوب وشكل روائي معين وإقصاء ما يخالفه، لأنه ليس من المعقول أن يتشابه أسلوب الكتابة في ثلاث روايات قد وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر إلى هذه الدرجة، لو لم يكن هذا دليلا على ذائقة معينة ومحددة استحسنت ما ناسب ذائقتها، وبالتالي استثنت ما خالف ذوقها.

أتمنى أن يكون هناك معيار لا تتحكم فيه ذائقة المحكمين، وأن يكون خاضعا لشروط الجودة والجدة والابتكار وقيمة إبداعية حقيقية، وهذا لا يعني أن ما قرأته ليست له قيمة إبداعية، الروايات الثلاث كل منها أجيد كتابته، لكن ما أقصده هو أن يكون للجنة التحكيم معيار للاختيار بعيداً عن الأهواء والتفضيلات الشخصية.

وأعود الآن إلى "كرة النار"، وهي رواية تحكي حكاية رجل سلطة إجرامية، فإننا نجدها نموذجا مكررا في كل زمان ومكان، وهي تكشف حقيقة الأنظمة العربية التي تديرها عصابات فاسدة تدمر الوطن والإنسان.

والجديد في هذه الرواية أن الإدانة والفضح آتيان من داخل إدارة هذه السلطة الفاسدة، ومن أحد رجالها الذي يصل إلى مرحلة يكتب فيها ما تم من إجرام لا إنساني، ومن هنا تأتي المفارقة التي عادة ما تُكشف هذه الأمور من خارجها، أي من بعد سقوطها تفضح جرائمها.

الرواية كُتبت بلسان بطلها الروائي الذي سلمه رضا شاوش، وهو أحد رجال هذه السلطة الإجرامية الفاسدة، أوراقه التي كتب فيها كل تفاصيل حياته قبل وبعد انضمامه إليهم، وهنا يستمر السرد بلسان رضا ذاته، وهو سرد طويل يخلو من تقنيات الإبهار، لكنه عميق يغوص في جذر التحليل النفسي ليوضح ويبرر أسباب الانحراف الذي طرأ على شخصية رضا شاوش، وقد أجاد الكاتب بشير مفتي في رسم شخصيته وتطور أطوارها وانحرافها وازدياد عنفها بكل مراحلها، وجاء وصفه وتعريفه له في نحت رائع فهو: "بطل تراجيدي يصلح للموضوعات التي كنت أرغب في كتابتها، قلق ميتافيزيقي حاد، وانحلال في الروح، وسوء تكوين مهلك، وجروح قديمة لا تندمل".

أو كما يصف رضا شاوش نفسه: صرت الشيطان، ودمية الشيطان، صرت تلك النار اللاهبة والمستعرة، النار الحارقة والمسعورة، صرت مثل دمية النار، تحرق من يمسكها، صرت اللاشيء الفارغ من أي معنى، والذي لن يعيش إلا عندما يقدر على مص دماء الأبرياء الذين يواجههم.

رواية دمية النار لبشير مفتي كُتبت بعمق تحليلي وصل حتى نخاع الشخصية المنحوتة لرضا شاوش، مما جعله يتنفس حيا كأنه أحد هذه الشخصيات التي رأيناها وهي سائرة بقدرية إلى حتفها.