هو حديث ذو شجون عايشته والتصق بالبال والخاطر، فغدا حديثاً يلامس الروح والوجدان، ففي عام 1972 وبعد تخرجي في جامعة الكويت بتخصص اقتصاد وعلوم سياسية التحقت بوزارة الخارجية إدارة الصحافة والثقافة, وكان مدير الإدارة المغفور له بإذن الله الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري الذي تعلمنا منه الكثير، وخاصة أدب الكتابة اللغوية وأصولها, وقد كلفني رحمه الله بإعداد نشرة يومية عن أهم ما يرد في الصحف المحلية اليومية، وكان عددها في ذلك الوقت خمس صحف فقط, وكانت تلك النشرة ترفع إلى مكتب وزير الخارجية والوكيل ومديري الإدارات. في الشهر التاسع من عام 1974 بدأت رحلة الألف ميل، وذلك بصدور قرار نقلي للعمل في سفارة دولة الكويت لدى المملكة العربية السعودية الشقيقة بمدينة جدة، وذلك قبل نقل السفارات إلى مدينة الرياض, كان يرأس البعثة الدبلوماسية وقتها المغفور له بإذن الله الشيخ بدر المحمد الأحمد الصباح، وضمت كلا من المستشار أحمد الحداد رحمه الله والمستشار أحمد العتيقي، ثم المستشار راشد الدخيل، والسكرتير الأول عبدالمحسن الدعيج والملحق الإداري خالد اللافي ومحمد إبراهيم وفيصل الساير. لعل أروع ذكريات تلك المدينة العزيزة "جدة" كان المشاركة في غسل الكعبة الشريفة من الداخل، فما زال الوجدان يخفق كلما خطر على البال أني كنت في لحظة من لحظات العمر ضيفا عند الرحمن في بيته العتيق، فقلما تسنح تلك الفرصة لملايين البشر من المسلمين. بتاريخ 25/3/1975 فجعت الأمة العربية والإسلامية بفقدان الملك فيصل بن عبدالعزيز- طيب الله ثراه- في حادث الاغتيال المشهور, وصادف أني كنت أقوم بأعمال السفارة بالنيابة لغياب السفير الشيخ بدر المحمد رحمه الله، فدعيت من ضمن رؤساء البعثات لتقديم واجب العزاء في وزارة الخارجية السعودية في مدينة جدة.

Ad

ذهبت إلى هناك وجلسنا في القاعة الكبرى، وكنت وقتها بدرجة ملحق دبلوماسي بينما كان أغلب رؤساء البعثات قد بلغ من الخبرة والعمر عتياً, وقف سمو الأمير الملكي سعود الفيصل في وسط القاعة ليتقدم كل رئيس بعثة ليتلو بعض عبارات التعزية، ثم يصافح سمو الأمير سعود الفيصل حتى جاء دوري، ولم أكن قد حضرت كلمة لذلك ارتجلت بعض العبارات مفادها أني لم آتِ للتعزية بل جئت لتلقي التعازي بالفقيد الكبير.

كان من ضمن الأنشطة المميزة التي تقوم بها السفارة متابعة موسم العمرة في رمضان وموسم الحج، إذ كنا نقوم بنصب مخيم بين مخيمات حملات الحج الكويتية، وتخصص إحدى الخيم للعمل القنصلي الذي كنت أتولى شؤونه، فكنا نحمل صندوقاً حديدياً يحتوي على بعض الأختام ووثائق السفر وبعض الطوابع القنصلية. ومن الأنشطة كذلك التي كانت تقوم بها السفارة وكلفت بالقيام بها

مرافقة رؤساء حملات الحج الكويتية ذات التاريخ العريق في خدمة الكويت وأهلها من أمثال- للذكر لا الحصر- حملة النمش, وحملة الفهد, وحملة بن طاهر, وحملة بن شنفا وغيرهم طيب الله ذكر الجميع بالخير, وذلك لتحديد مواقع مخيمات الحج. وكانت أسعد الأوقات لدينا التوقف في صعيد منى لأداء صلاة الظهر، وتناول طعام الغداء تحت ظل إحدى السيارات، كانت بعثة الحج المشرفة على اختيار مساكن الحجاج في المدينة المنورة ومنطقة العزيزية في مكة المكرمة مكونة من يوسف الخميس ممثلا لوزارة الصحة والأخ الفاضل جاسم العون ممثلا لوزارة الأوقاف وأنا ممثلا لوزارة الخارجية.

كان بحق عملا شاقا ومرهقا, وكانت مدينة جدة يومها في بداية نهضتها، فلم يكن فيها آنذاك إلا عمارة واحدة تسمى "عمارة الملكة" ومستشفى واحد هو المستشفى اللبناني، وكانت ديوانية الأخ الفاضل القائم بالأعمال الإماراتي هي المقر الذي يجمع الشباب الدبلوماسي لدول الخليج، ومن أصدقاء ذلك التجمع الأخ الفاضل عبدالعزيز الفهيد سفير دولة قطر الشقيقة، وكم أشعر بالفرح عند لقائي به في البلاد بين فترة وأخرى.

في موسم حج عام 1975 حدث حريق مروع في مخيمات الحجاج في منطقة منى ولله الحمد والمنّة لم يصب أحد من حجاج الكويت أو مخيماتهم بأي أذى، ولعدم وجود نقل تلفزيوني في ذلك الوقت أو اتصالات هاتفية أو نقال أو غيرها من تكنولوجبا الاتصالات الحديثة فقد قررنا أنا والأخ الفاضل فيصل الساير العودة إلى السفارة لإرسال برقية لتطمبن أهل الكويت على سلامة الحجاج وحالتهم, وقد قام الأخ فيصل بقيادة السيارة بسرعة غير عادية, وبعد وصولنا إلى السفارة قمنا بفتح جهاز اللاسلكي، وكان هو الوسيلة المتوافرة للاتصال المباشر مع قسم الرمز بوزارة الخارجية، وكان النداء المخصص لنا هو "ألو 6" والخارجية "ألو1"، وما كدنا نفتح الجهاز وإذا بأحد الإخوة في القسم يبلغنا بأن الوكيل آنذاك السيد راشد الراشد يسأل عنا باستمرار، فقام الأخ الكريم بإيصال اللاسلكي مع هاتف الوكيل، وعندما أبلغته أن جميع حجاج الكويت ولله الحمد بخير، طلب أن نقوم بإعداد برقية بذلك وقراءتها مباشرة من خلال شبك اللاسلكي مع إذاعة الكويت لتكون الخبر الأول في إذاعة الكويت بنشرة أخبار الساعة الواحدة ظهراً، ولم يتبقَ على ذلك إلا ما يقارب الربع ساعة, وبالفعل قمنا بذلك وتمت قراءة البرقية.

وهنا بودي أن أشير إلى لفتة كريمة من المغفور له بإذن الله العم الفاضل عبدالعزيز المساعيد، وكان وقتها مالك ورئيس تحرير جريدة "الرأي العام" الذي نشر مقالا قصيرا ورد فيه بأن موظفاً صغيراً اسمه العنيزي يدير السفارة بجدة في موسم الحج شمل بعض عبارات الإطراء، فجزاه الله كل خير وأسكنه فسيح جنانه. وهنا أود التأكيد أن سرد حديث الذكريات إضافة إلى تسجيل الأحداث هو العرفان وتقديم الشكر والاحترام لرجال من أبناء هذا الوطن الغالي كان لهم أدوار مهمة بتاريخ هذه الأرض الطيبة في ظروف لم تكن سهلة، فما وهنوا ولا استكانوا، ولم يكن المنصب والشهرة والخطب الرنانة أهدافاً لهم بقدر خدمة الكويت وأهلها.

حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.