بعد مشهد مقتل السفير الأميركي المروع في ليبيا وثلاثة آخرين من زملائه على أثر الاحتجاجات على الفيلم المقزز الذي يسيء للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، أصبحت الصورة أكثر وضوحاً عن الأثر المدمر للإسلاميين السياسيين والفكر الأصولي على الربيع العربي، ودورهم المانع لإمكانية أن تنعم هذه المنطقة بنظم ديمقراطية تعددية وتداول سلمي للسلطة بين كل التوجهات السياسية، إن حظيت بقبول الناخبين وأغلبية أصواتهم، في ظل غوغائيةِ من يحتل الشارع العربي ويحوله إلى مكان للمواجهة والاقتحام ومنجنيق الحجارة في ما يشبه مرحلة "الحشاشين" في التاريخ العربي- الإسلامي.

Ad

الإسلام السياسي جنى ثمرة الربيع العربي دون عناء حقيقي وعلى الجاهز، فلم تكن القوى المدنية التي حركت الشارع العربي مثل حركة "كفاية" أو منشئي صفحة خالد سعيد على "الفيسبوك" من "الإخوان المسلمين" الذين رفضوا دعوة الخروج إلى الشارع في مصر في 25 يناير 2011، ولم ينزلوا إلى ميدان التحرير إلا بعد عدة أيام عندما تأكدوا من جدية التحرك الشعبي المصري، ولم يكن وائل غنيم صاحب الدعوة لانتفاضة 25 يناير في مصر من الجهاد الإسلامي بل شاب مصري خريج الجامعات الأميركية يصبو إلى الحرية ودولة مدنية ديمقراطية، وكذلك من أشعلوا انتفاضات التغيير الشعبية في تونس وليبيا واليمن، ولكن الإسلاميين جنوا الثمرة في المحصلة النهائية باستغلال الخطاب الديني في مجتمعات تنتشر فيها الأمية بشكل كبير ومحدودية الاطلاع والثقافة العامة، وهم الآن يجرّون العالم العربي إلى تجربة مريرة أخرى بعد تجربة الأنظمة العسكرية الديكتاتورية في الستين سنة الأخيرة، وللأسف فإن الثورة السورية التي لم تنجَز بعد ستدفع الثمن الأغلى لممارسات المتطرفين الإسلاميين، فبعد مقتل السفير جون ستيفينز وموجة اقتحام وحرق السفارات الأوروبية ورفع أعلام تنظيم "القاعدة"، هناك وقفة من الأوروبيين لمراجعة النفس، وتساؤل عن مصير التجمع المسيحي الكبير في منطقة الشام لو تمكن أصحاب فكر متطرفي ليبيا ومصر من التواجد في سورية ما بعد نظام الأسد.

ممارسات الأصولية الإسلامية في تونس ومصر وليبيا وحرب "القاعدة" في اليمن ستحول الربيع العربي إلى خريف يدمر آمال الشعوب العربية، ولعبة الخطاب الديني للإخوان المسلمين سيسحبها من تحت أقدامهم الجهاديون المتطرفون كما فعلت "طالبان" في أفغانستان وصقور الملالي في طهران، أما ما يتردد عن النموذج التركي ومقاربته كمقياس لتجربة الإسلاميين في الحكم والسلطة، فهو قياس علمي خاطئ ومثال غير صحيح، فحركة «العدالة والتنمية» في تركيا أو جماعة أربكان التاريخية هي حركة تراثية بشعارات إسلامية تذكِّر الأتراك بمجد عرقي لهم يتمثل بالعثمانيين، وصبت أصوات الأتراك له بعد الرفض الأوروبي لانضمامهم إلى المنظومة الأوروبية لبعث الاعتزاز الوطني في وجه الإهانة الأوروبية لهم، ولم يغير في وجه تركيا العلماني الغربي ونمطها الاجتماعي وحروف لغتها اللاتينية شيئاً حجابُ زوجة رئيس الجمهورية المنتمي إلى حزب العدالة والتنمية.

إسرائيل بالتأكيد في غاية السعادة والرضا لوصول الإسلام السياسي إلى السلطة في الدول العربية، وتمادي ممارساته في الانغلاق وقتل الدبلوماسيين، وتهجير المسيحيين، ولم يكن غريباً قرار هولندا الأسبوع الماضي بفتح باب الهجرة للأقباط المصريين، وهي أمور توقيتها يثير التساؤلات، خاصة في تزامنها مع الفيلم المسيء للإسلام وذكرى 11 سبتمبر، وكلها أحداث لا يمكن أن تكون عفوية، فتفريغ العالم العربي من المسيحيين ووصول المتطرفين الإسلاميين إلى الحكم وتواتر ممارساتهم الشاذة ستجعل من السهل للصهاينة في المستقبل تكوين جبهة عالمية لمواجهة العالم العربي بعد أن تسوده أحادية مكونه الاجتماعي والديني وممارسات الأصولية الفجة، وفشله في اللحاق بالعصر في تكوين دول مدنية ديمقراطية تحافظ على حقوق الإنسان وتحترم اختلاف المعتقدات رغم الثورات التي قامت فيه من أجل الديمقراطية والإصلاح، والتي تَمكَّن الإسلام السياسي من اختزالها وحرق مفاعيلها، وهو ما يعزز لدى العالم ما يردده الصهاينة بأن العالم العربي الإسلامي لا يمكنه أن يكون جزءاً من العالم المتحضر الديمقراطي، بل خطر يهدد العالم ويجب مواجهته.