اتخذت الحكومة في الأيام الماضية قرارات عدة كان أهمها رفع نسبة الاستقطاع من إيرادات الدولة لصندوق الأجيال القادمة إلى نسبة 25%، وهو الأمر الذي كنا نطالب به من قبل وربما نتطرق له بالتفصيل في مقال قادم. والقرار الثاني المهم كان فتح باب البعثات لأفضل 100 جامعة بالعالم أمام المواطنين، لكن ما إن علمنا بتفاصيل القرار حتى تبين أنه كان في الاتجاه الخاطئ. فوزير التربية صرح بأن القرار يشمل كل من لم يتجاوز تخرجه من الثانوية العامة سنتين فقط، أي أن القرار موجه لحديثي التخرج من الثانوية فقط مع أن باب البعثات متوفر لهذه الشريحة عن طريق خطة البعثات السنوية والتي لا تعاني نقصاً في عدد المقاعد أصلاً، فما الجديد في الأمر؟
فكان الأجدى أن يشمل القرار، بل أن يحصر في الراغبين في تكملة الدراسات العليا لأن المنفذ الوحيد تقريباً لمريدي هذا المجال هما الجامعة والتعليم التطبيقي اللذان يعانيان من التدخلات السياسية والطائفية والقبلية في قبول البعثات، وكم من متفوقين حرموا من تكملة دراساتهم العليا بسبب هذه الاعتبارات الظالمة وغير المهنية.ولكن حتى لو كان القرار يشمل الراغبين في استكمال الدراسات العليا، فإن السؤال الملح سيكون: وماذا بعد؟ فهل الهدف الأوحد هو زيادة الخريجين من الجامعات المتميزة أم استثمار هذه الشهادات من أجل تنمية حقيقية؟ وهل قامت الدولة باستثمار خريجيها المتميزين منذ عشرات السنين أم لا؟ وهل يمكن أن يكون لهؤلاء المتميزين إضافة مهمة لتنمية البلد في ظل سياسة إدارة الدولة القائمة على المحاباة والتمييز والواسطة؟ لقد قامت الدولة بإرسال آلاف البعثات منذ أكثر من نصف قرن، لكن هل تمت الاستفادة من العلم الذي جلبه هؤلاء معهم؟ إن سياسة البعثات يجب أن يكون الهدف منها هو الاستثمار في العلم من أجل التنمية الحقيقية مثلما فعلت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية والتي يعزى تقدمها العلمي والتكنولوجي بشكل أساسي لنظام البعثات الذي استطاعت من خلاله جلب العلوم الحديثة واستخدامها لتنمية الصناعة والابداع والابتكار.أما عندنا، فما يحصل هو العكس، حيث تصرف الحكومة الملايين سنوياً ليرجع الخريجون من جامعات متقدمة ويعملوا في القطاع الحكومي الفاشل وبوظائف معظمها إشرافية دون استثمار للعلم الذي جلبوه معهم. والنتيجة أن هناك ثروة وطاقة بشرية هائلة مدفونة في قطاع غير منتج بدل أن توظف في العمل الحر والقطاع الخاص للتشجيع على الابتكار. كما نرى كثيراً من الكفاءات لم يعطوا مجالاً للإصلاح أو الإبداع في مجالات عملهم بسبب سياسة المحاباة والواسطة، مما خلق روح الاحباط في اليأس في قلوبهم.تخطئ الحكومة ويخطئ وزير التربية إن ظنا أن سياسة الصرف وزيادة الخريجين ستؤدي إلى التقدم والتنمية، وبما أن الوزير يعد من الأكاديميين، فأقترح عليه قراءة كتاب "The Spirit Level"، الذي يثبت فيه الأكاديميان ريتشارد ويلكنسون وكيت بيكيت بالأدلة والإحصاءات العلمية أن التقدم في مجالات الصحة والتعليم ومعدلات العمر والسمنة والسعادة وغيرها من الأمور ليست متعلقة بمقدار صرف الأموال عليها (وإن كانت تتطلب حدوداً دنيا لذلك)، بل إنها مرتبطة بعامل واحد وهو مقدار الإحساس بالعدالة الاجتماعية. فلا فائدة من ملء البلد بأفواج من الخريجين ما دامت العدالة غائبة في التعيينات والمناصب وفرص البحث العلمي والمنافسة التجارية والتميز.كما أنه لا فائدة من كل هذه البعثات ما دام البلد قائماً على مورد واحد ناضب وما دام اقتصاده مشوهاً بجهاز حكومي متضخم يغدق عليه بالمميزات بينما يعاني القطاع الخاص المنتج قلة الحوافز.الخلاصة؛ إن قرار إرسال البعثات لأفضل 100 جامعة بالعالم سيكون هباءً منثوراً وسيكون هدراً للمال العام بدلا من استثماره إن لم يكن مرتبطا بقرارات جوهرية أخرى تعالج الخلل الكبير والخطير في اقتصاد الدولة، وذلك بتنويع الاقتصاد وخفض حجم الحكومة وتشجيع المواطنين على العمل الحر والابتكار والصناعة... وللحديث بقية.
مقالات
قرار ممتاز لكن بتطبيق خاطئ
27-09-2012