ما الذي دفعك إلى الكتابة وأنت الذي تعمل على سيارة أجرة؟
قيام «حزب الله» في 7 مايو 2008 باجتياح بيروت وعجز أهلها عن الرد، وعجزي عن الإتيان بفعل عسكري مضاد، فكانت الكتابة بديلاً .هل كانت الكتابة هاجسك قبل أن تتحول إلى التاكسي؟لم تكن الكتابة هاجسي في ما مضى، كان هاجسي المعرفة وكنت فيها كحاطب ليل، أقرأ ما يقع بين يدي ومن الجلدة إلى الجلدة. لم أمتلك في حياتي منهجاً، كنت أفكر في «معقولية» الكلام الذي أمامي. وكانت القراءة بين كتب التاريخ وما تنشره الصحف مع القراءة في فنون الصنائع. وبعد أحداث 11 سبتمبر، تحولتُ إلى قراءة العقائد وانتسبت للحصول على دبلوم من كلية الإمام الأوزاعي في بيروت، علماً أنني في الأصل خريج لغة عربية (جامعة بيروت العربية 1971-1967). ومنذ 2006 حتى اليوم، أركز على قراءة الاتجاهات الفكرية .هل يشبه كتابك في شموليته أحوال التاكسي وتجوالها ومشاويرها في شوارع المدينة؟شمولية الكتابة نمط من الكتابة الموسوعية القديمة الأقرب إلى الكلام الشفوي منه إلى الكلام المكتوب المخطط له سابقاً.هل طالعت الروايات التي تتناول التاكسي؟لم أقرأ إلى الآن أي رواية عن توظيف التاكسي في الأدب. إلى أي حد وظفت الخيال والتخيل في روايتك المليئة بالأسماء والتواريخ والأمكنة الحقيقة؟الخيال والتخيّل كانا يأتيان طبيعياً ليعطيا هدف الكتابة (التحريض) بعداً محلقاً. جدي مثلاً اخترتُ له نهاية على الضفة الشرقية «لترعة السويس» وبعبارة «أغاروا صبحاً» (التي تبين لي أنها تسللت إلى الكتابة من التعبير القرآني «والمغيرات صبحاً»)، وهي نهاية مختلقة. كذلك ساعدت على سرعة استقدام هذا التخيّل مجموعة الصحف التي تعرف باسم مجموعة «فيليب دي طرزي» مع مجموعة الصحف التي كانت في مكتبة القلعة في القاهرة، والتي تغطي فترات من الحرب العالمية الأولى حتى أوّل صحيفة عربية (أرجيز باريس - 1860)، فصحيفة «الشرق» لمحمد كرد على رئيس تحريرها آنذاك كانت تنقل طيلة صدورها أخبار جبهات القتال سواء في السويس أو البصرة والعراق. ومحمد المدور شخصية مخترعة بالكامل تحكي سنوات جهاد وكفاح وضال «البيارتة» في فترة بين الحربين، فعمر عاش في رأس بيروت، تلقى علومه الأولية في الجامعة الأميركية وسافر ليدرس الكهرباء في ألمانيا وتواصل هناك مع رشيد عالي الكيلاني ويونس البحري والحاج أمين الحسيني واتصل بالألبان ومسلمي يوغسلافيا الذين تجمعوا في فلسطين لقتال اليهود. لكن القدر... أوقعه في حب يهودية، اخترت لها اسم يوجين وهي من الأسماء اليهودية المتداولة في القرن التاسع عشر. يوجين هذه تزوجت عمر وأحبته وانتقلت للعيش معه في بيروت. تنتهي حياة عمر المدور بانفجار شاحنة الخضار التي فجرها الإسرائيليون في منطقة السان جورج خلال اجتياح 1982، فانتهت حياته وحياة يوجين. جاء من المجهول واختفى في المجهول، لم يرث ولم يورث، فكأنه نهاية مسيرة أمة منذ انكشافها في المشرق أمام الغرب وسقوط الدولتين الليبرالية والقومية.يروي كتابك فصولاً من أخبار متوزعة بين مطالع القرن العشرين مروراً بـ{المرحلة الناصرية» ثم سبعينيات الثورة الفلسطينية إلى مراحل الحروب المتناسلة في لبنان وحتى أيامنا هذه... ما الذي استنتجته من تعدد المراحل في بيروت؟ما استنتجته من تعداد المراحل في بيروت أننا خسرنا المكان، خسرناه بسبب عدم وعينا كلبنانيين سنّة وننتمي إلى الأكثرية بخطورة الأقليات إذا أمسكت بالقرار في الكيانات السياسية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى، خصوصاً في لبنان وسورية، فقد عجزت هذه الأقليات عن إقامة دولة وتحقيق الحداثة بسبب «بنيتها التحتية» التي تستند إلى تصورات تاريخية واهية وإلى كره المدن باعتبارها شكلت تاريخياً مراكز تجمع الأكثريات. ومن هنا فإن روايتي تنفرد عن بقية الروايات الكثيرة والتي كانت محل اعجاب وترويج غربي ومستغرب بأنها «أنين الاكثرية»، هذا الأنين هو الذي فجّر «الربيع العربي» في المشرق العربي . أي مرحلة أحب إليك في بيروت خلال القرن العشرين؟ بين 1880 و1918، كانت بيروت آنذاك عاصمة ولاية بيروت العثمانية بمساحة تساوي ثلاث أضعاف مساحة لبنان الحالية. كانت ساحلية مستكملة لساحليتها، وكانت واعدة بالحداثة كتفاهم عثماني - أوروبي يقابله تلهف من البيارتة وإصرار على الدخول في العالم الجديد. كان تعداد سكانها 110 آلاف نسمة يسمح بعيش يستوعب الضعف من دون الإسمنت «اللي سد ضو الشمس». كانت مكتفية بذاتها مصونة من أهلها، أهلها الحريصون على الآخر والانفتاح عليه.لماذا لم ينتج «البيارتة» الرواية؟ يقال إن الرواية الحقيقية هي ابنة الطبقة البرجوازية وابنة المدينة، وأهل بيروت لم يشكلوا طبقة برجوازية ولم تستكمل بيروت مدينيتها المعروفة. تتعرف الرواية إلى طريقها من خلال الصحافة، في حين فقد البيارتة السيطرة على الإعلام المكتوب منذ قيام الكيان اللبناني. واليوم أمامهم فرصة لاستعادته من خلال الإنترنت. عموماً، عبدالله العروي له رأيه المعروف في فشل معظم الروائيين العرب، من نجيب محفوظ إلى عبدالقادر المازني، وصولاً إلى صاحب «مدن الملح» عبدالرحمن منيف.لماذا اخترت الباحث والمفكر وضاح شرارة لتقديم كتابك؟لم أختر الباحث وضاح شرارة لتقديم روايتي، بل هو الذي رغب في ذلك وطلب مني هذا الأمر. وأنا سررتُ. كنت وما زلت معجباً بكتابات وضاح شرارة فهو خرج من مفهوم الأقلية إلى عالم الأكثرية ومن ضيق «الضيعجية» إلى رحاب المدن. ربما رأى فيّ مثال «البيروتي التائه»، فلا عجب أنه هو من اختار التسمية «البيروتي التائه». بينما لم يتعد تفكيري بالاسم عنوان «مسيرة جيل».
توابل - ثقافات
فاروق عيتاني: خسرنا بيروت المكان
02-12-2012