تعرض محطة المستقبل اللبنانية برنامجا عن الحدائق ومفهومها الثقافي الحضاري باسم "حول العالم بـ80 حديقة"، وهو من إنتاج محطة بي بي سي الإنكليزية، ممتع ومسل وفي ذات الوقت يكشف عن حضارات دول العالم وثقافاتها، من خلال رؤيتها وفلسفتها في حدائقها وطراز إنشائها والروح المتمثلة فيها.

Ad

المقدم للبرنامج عاشق مفتون بالحدائق وكل أنواع وأصناف البستنة، إلى جانب خبرته وعلمه بكل عائلات الأشجار والأجمة والأعشاب والطحالب والزهور، مما أمدني بمعلومات مفيدة ومتعددة.

المقدم دار العالم كله ليكشف للمشاهد عن أهم وأجمل 80 حديقة فيه، ليرينا حدائق في منتهى الجمال والبذخ والغرابة، وأغلبها حدائق مكلفة جدا في كيفية رعايتها وطرق صيانتها للحفاظ عليها لمئات السنين، لتبقى تراثا يمتع البشرية لحدائق نقلت للعالم ثقافات من أنشأها وعاش فيها.

وقارن المقدم بين الاختلافات في طبيعة الحدائق وأسرار إنشائها وأهدافها وتشابهها واختلافها، بين الحدائق الإنكليزية الفكتورية الكلاسيكية العريقة، إلى الحدائق الفرنسية بأشكالها الرومانسية المتعددة، ففي العاصمة باريس وحدها ما يزيد على 400 حديقة، كل واحدة لها طابع مختلف عن الأخرى، لأن معنى الحديقة لديهم يتخطى أن يكون مجرد أشجار وزهور بأي شكل كان، كل حديقة منها لها طابع وحياة خاصة بها تميزها عن غيرها، لكن أغلب الحدائق الفرنسية تتميز برومانسية أخاذة كأنها من الأساس قد خُططت للحب وللعاشقين، فهي مترفة بالنعومة وبالرقة والهدوء وخصوصية السكينة والعزلة.

وهناك منتخبات أخرى مميزة من حدائق أوروبا التي كان ليد الإنسان فيها الكثير، فهي ليست إلا نتيجة لصنعه وتمكنه من فنون خلقها.

وحدائق المكسيك نجدها قد تركت مساحة للنور والضوء، ليلعب فيها، مما أنتج حوارا دافئا بين الظلال والجدران العالية ومساحات الفراغ التي تُركت لتعكس مزيج الأضواء والألوان والصمت في هرموني يضفي على المكان روحا خاصة به تعكسه نباتات الصبار المكسيكية المتنوعة التي هي روح هذه البلاد وعنوانها.

ولم أصدق أن هناك حدائق لها مكان في القطب المتجمد الشمالي إلا عندما كشف عنها البرنامج، فهناك حدائق تنمو وتزهر حتى وإن كان عمرها قصيرا من عمر الصيف الخاطف، إلا أنها تجد من يفرح ويبتهج ويحتفي بقدومها بحفل مقام على عجل، لأنها أزهرت في بلاد تعرف ما معنى أن تكون هناك حديقة حتى وإن كانت مكلفة وعمرها قصير.

أما الحدائق اليابانية فتلك لها فلسفة مختلفة تماما عن الفكر الغربي المؤسسة عليه حدائقهم، فاليابان تستمد ثقافتها من فلسفة الزن التي تؤمن بها، والتي تعتمد على التجريد وتكثيف المعنى في رموز آتية من جوهر الزن الذي يرى في العناصر الأربعة، الهواء والماء والنار والتراب، معنى الحياة كلها، لذا نجد حدائقهم تترك مساحات للتراب وللهواء وللماء لتتحرك الطاقة بينها مما يغير من شكلها، الذي يقوم المشرفون على الحديقة بتحريك رمله في دوائر وخطوط لها معان خاصة في فلسفتهم، ويحتفل اليابانيون بموسم تفتح أزهار الكرز بالذهاب إلى الحدائق بفرح وتقديس لطقس التفتح هذا المرتبط بثقافتهم وتراثهم.

وحدائق الصين فتلك أيضا لها وجود مستمد أيضا من تاريخها الديني وثقافتها المعتمدة على تقطير جوهر الطبيعة الباهر، لذا نجد حدائقهم تعتمد على الشكل الطبيعي في الخلق، وتبتعد عن المبالغة التي تنتجها اليد الإنسانية، وهو ما يتمثل تماما في حدائق الجبال الصفراء التي تُركت ليد الطبيعة لتشكلها كيفما كان، مما أنتج تكوينا مذهلا وغرائبيا لحدائق يعجز الإنسان عن خلقها، فكل مشهد فيها هو لوحة تبهر الرائي لها، تحير عقله وتثيره وتنبش الأسئلة، وهذا هو الفكر المبنية عليه فلسفة الحدائق، التأمل للوصول إلى التوحد مع الطبيعة والكون من حولنا.

وفي الهند نجد الحدائق المترفة التي أقامها المهراجات لإمتاع زوجاتهم وعشيقاتهم، فاخترعوا حدائق تأتي بأمطار موسم المنسون في غير أوقاته حتى يتمتعوا برذاذه وهم جالسون في حدائقهم الحسية الغارقة بطوفان روائح الفل والياسمين الهندي ونكتار ملكة الليل.

وهناك اختراعات جميلة أتى بها أصحاب الحدائق الخاصة، فمثلا أحدهم خلق حديقة من جميع أنواع الأعشاب، وآخر جز نباتات التشكيل على هيئة غيوم وأكوام من الصوف المتراكم.

حدائق نابعة من فكر وثقافة بلادها، إلا بلادنا العربية ليس لها أي حديقة تُذكر، ففن الحدائق ليس من ثقافتنا.