قرأتُ سيرة حياة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه "خارج المكان" ثلاث مرات. الأولى كانت قراءة متعة واكتشاف. والثانية حين كنتُ أحضّر لبحث أكاديمي احتجتُ خلاله إلى شذرة عابرة من سياق هذه الحياة. والقراءة الثالثة هي هذه، وأحسبها أكثرهن إشباعاً لرغبة النفس في الانطلاق، والتماسّ مع هذا الوجدان الحيّ النابض، المتمثل في هذه السيرة المؤثرة.

Ad

وحتى يتمثل لي المشهد أكثر قرباً، رجعتُ إلى موقع "يوتيوب" الإلكتروني، لأستكمل الصورة الذهنية بصورة بصرية، تريني إدوارد سعيد حياً على الشاشة، يتحدث إلى جمهوره، ويومئ لي بملامح وجهه وإشارات يديه. فتطابقت في ذهني حينها صورة المفكر المثقف، المهموم بقضايا الحريات، والمندد بالتسلط والإمبريالية والعنصريات البغيضة، بصورة الإنسان البسيط المتواضع، وهو يزجي اعترافاته بتلك الأريحية والصدق والضعف الإنساني النبيل.

جاءت الكتابة في "خارج المكان" ثمرة من ثمرات التوحد مع الذات والتوحد مع المرض، وانسراباً وراء ذكريات فيها من الوعورة والمكابدة، على قدر ما فيها من محاولات التطهر والخلاص، سواءً على المستوى الفردي الخاص، أو على مستوى التاريخ المحكي (الاجتماعي/ السياسي) العام. وربما كان لعامل المرض من جهة، والإحساس بوطأة الزمن (الاسترجاعي) أو (الاستباقي) من جهة أخرى، أثر في استجلاب المرارات والوهن، والشعور العارم بالهشاشة في رحلة الحياة القصيرة، ثم الخروج من هذا الهشيم بالبقية الباقية من رمق المكابرة، وببصمة مضيئة في الكتابة الذاتية وأدب الاعتراف، وما أندرهما في فضائنا الثقافي.

الكثير من نماذج السيرة الذاتية، قد تكون مجرد تجميع لأحداث ومشاهد متشظية، وقلما يكون لها عمود فقري يصلب بناءها ويدرجها ضمن الأعمال المحسوبة على التأليف في مجال الأدب أو الإنسانيات بشكل عام. ولكن "خارج المكان" تميز بمعمارية صلدة ترتكز على مدى تأثير (اللامكان)، وهو مدماك السيرة الأساسي، في خلق شخصية بهذه المواصفات (الدرامية): وجدانية/ فكرية/ سياسية، إذ إن السمة السلبية (للامكان) كانت إيجابية على مستوى مكابدة التجربة الإنسانية والفنية، وساهمت بجدارة في خلق هذا النموذج من الكتابة الذاتية.

يأتي عنوان "خارج المكان" واضح الدلالة على القصد من إنشاء هذه السيرة، التي لا تحكي فقط قصة الشتات والتمزق التي كابدها المؤلف على مستوى المكان فقط -وهذا بحدّ ذاته أمر مربك ومزعزع لغريزة الاستقرار- وإنما أيضاً على مستوى اللغة، والهوية، والانتماءات الإنسانية الأخرى. فمنذ البدء ارتبطت حياة المؤلف قدرياً بأهم المتغيرات السياسية، سواءً في مسقط رأسه القدس، حيث ولد عام 1935م، متمثلة باحتلال فلسطين، أو ما تلا ذلك من أحداث سياسية شكلت تاريخ المنطقة، ومصير مجتمعاتها، وأقدار ناسها. لقد كان لكل حدث من الأحداث السياسية، نصيب أكيد في تشكيل حياة لم تعرف للاستقرار معنى، فجاءت فوضى المتعلقات الأخرى ذات الصلة كاللغة والهوية والوشائج النفسية والإنسانية الأخرى، لتكمل صورة اللامنتمي، الساقط في (اللامكان).

ثم تأتي تجليات اللامكان على المستوى الذاتي، فيبدأ الشعور لدى المؤلف بهلامية الذات، وعدم التلاؤم مع إطارها الأساسي، وهو (الاسم) منذ وعيه المبكر. ثم تنمو تساؤلاته الاستنكارية حول (اسم) ذي وقع غريب لا علاقه له بالفضاء العربي الذي يتحدر منه، فبدا اسماً نافراً، شاذاً، يحتاج -والأمر كذلك- إلى تأويل وإحالات لفك هذا الارتباك:

"كان يلزمني قرابة خمسين سنة لكي أعتاد على (إدوارد) وأخفف من الحرج الذي يسببه لي هذا الاسم الإنكليزي الأخرق الذي وُضع كالنير على عاتق (سعيد)، اسم العائلة العربي القح... وخلال سنوات من محاولاتي المزاوجة بين اسمي الإنكليزي المفخم وشريكه العربي، كنتُ أتجاوز (إدوارد) وأؤكد (سعيد)، تبعاً للظروف، وأحياناً أفعل العكس، أو كنتُ أعمد إلى لفظ الاسمين معاً بسرعة فائقة، بحيث يختلط الأمر على السامع. والأمر الوحيد الذي لم أكن أطيقه، مع اضطراري إلى تحمله، هو ردود الفعل المتشككة والمدمرة التي أتلقاها: إدوارد؟ سعيد؟".