مارلين روبنسون!
لسنوات طويلة لم اختبر هذا الإحساس المغوي بلهفة الاشتياق لمقابلة شخص يلفّه سر الإبداع، وتسطع به شهرة الكتابة. فمنذ وصلت إلى ولاية «أيوا- IOWA» الأميركية، لأكون محاضرا مشاركاً في «برنامج الكتابة الإبداعية العالمي-International Writing Program» الذي تنضّمه سنوياً جامعة «أيوا-University of Iowa»، وأنا أتحرق شوقاً لمقابلة الكاتبة «مارلين روبنسون-Marilynn Robinson»، التي تُعد واحدة من أهم كاتبات الولايات المتحدة. كثيرة هي المغريات بمقابلة «مارلين» كما تحب أن يناديها الجميع، فمارلين المولودة عام 1943، تحيط نفسها بأسوار الوحدة والتأمل، زاهدة بصخب الحياة العامة، وأقرب ما تكون إلى الراهبة. حازت شهرةً ومجداً مدويين، بالرغم من أنها كاتبة مقلة جداً، فهي على امتداد قرابة ثلاثة عقود، لم تصدر إلا ثلاث روايات وكتابين. الروايات الثلاث هي: «تدبير منزلي-House Keeping» عام 1980 وحازت جائزة «همنغوي»، ورواية «جلعاد-Gilead» عام 2005 وحازت جائزة «بوليتزر»، وجائزة «ناشيونال بوك كريتيك أوورد»، ورواية «البيت-Home» عام 2009، وحازت جائزة «أورانج». ويبدو واضحاً مدى التقدير النقدي اللافت الذي حظيت به روايات مارلين، إضافة إلى شعبية كبيرة بين جمهور القراء.
«الوحدة هي الهبة الأجمل، تمنحني فسحة للتأمل في جمال الكون، وتتيح لي فرصة القراءة والكتابة». هكذا نبست بنبرتها الهادئة، كما لو أنها تبرر عشقها لعزلتها «مارلين روبنسون» الحاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة واشنطن، تعمل في التدريس في جامعة أيوا، في «ورشة الكتابة الإبداعية» منذ قرابة العشرين سنة، وتتخد من المكتب رقم (129) في مبنى «Dey House» التابع لجامعة «أيوا»، بشبابيكه العريضة المطلة على حديقة خلفية بأشجارٍ سامقة، مكاناً لتدريس طلابها، وهناك التقيتها. «مارلين» المرأة السبعينية، بشعرها المخضب بفضة البياض، ونظرتها العميقة، وانصاتها لمحدثها، تبدو وكأنها نسمة عابرة يصعب الإمساك بها. قلت لها إنني قادم من الكويت، وقدمت لها ملفاً عن رواياتها الثلاث التي ترجمها إلى العربية «سامر أبو هواش»، وصدرت عن مشروع «كلمة» في هيئة ابوظبي للثقافة والتراث. فاحتلت دهشة طفولية وجهها، وقالت والفرح يغمر صوتها: «لم أتوقع أن يكون لي قراء في اللغة العربية». مررت معها على بعض الأوراق، أترجم لها بعض ما كُتب عن رواياتها، فشمل ضياء الغبطة وجهها، وبعثت: «كتبنا هي رسل محبتنا إلى الآخر». سألتها عن سرِّ تعلقها بالكتابة مذ كانت طفلة لم تتجاوز الخامسة، فردت قائلة: «القراءة والكتابة هما لحظة اطمئنان قلبي، وسلامي مع نفسي». وتوقفت لثوان، قبل أن تضيف: «أمنح نفسي للكتابة، علها تنفذ بي إلى الجمال في الكون والإنسان». سألتها عن رأيها في الإسلام والمسلمين، فردت: «الإسلام دين سماوي عظيم، وجميع أصدقائي المسلمون رائعون ومحترمون». أهديتها سفينة «بوم كويتي» صغير، رمزاً لعلاقة الكويتيين بالبحر، فاجتاحها الفرح، وتلعثمت قائلة: «كم هي رائعة!». وجّهت لها دعوة لزيارة الكويت، واستضافتها في «الملتقى الثقافي» فأجابت بصوت تحفّه السكينة «يسعدني ذلك، فلم يسبق لي أن زرت أي بلد عربي». ولأنني أعلم تماماً إعراضها عن أي مقابلة صحافية، قلت لها انني أحمل معي أسئلة تشكّل المقابلة الأولى لها مع كاتب عربي. فتسرب خجل حيي لنبرة صوتها: «أعمالي هي جلّ ما أقدمه للقارئ». بقيت أنظر لها، فاستدركت: «سأسعد بقراءة أسئلتك، وأرسل لك الإجابة عبر الإيميل». شكرتها وقدمت لها رواياتها الثلاث، بنسختها الإنكليزية لتوقيعها، ففاجأتني تهمس قائلة: «ارتبك في كتابة إهداء لكاتب زميل بحضوره، دع الكتب لي، سأوقع عليها وسيكون لنا لقاء آخر». نهضت أودعها، صافحتها قائلاً: «سعدت بكسب صديقة رائعة». أشرق وجهها بابتسامة حيية، وهي تقول: «وأنا أيضاً».