أسلوب المخرج الإيطالي أنطونيوني على الشاشة الفضية لا يعتمد حكاية ذات فعل حاسم. ما من شيء يحدث كما يبدو، ولكن وراء الاعتيادي أكثر من شيء يحدث. قبل يومين شاهدت فيلماً تركياً للمخرج نوري جايلان بعنوان «ذات يوم في الأناضول» (2010) ينتسب إلى منحى أنطونيوني السينمائي، ولكن بشخصية بالغة الاستقلال والطموح. الفيلم طويل (ساعتان ونصف) وعلى شيء من الصعوبة، خصوصا على المشاهد الذي لا يقدر على النبش في ما وراء الظاهر، حدث يتواصل طوال ليلة واحدة حتى صباح اليوم التالي. ثلاث سيارات تقل قوة من الشرطة مع محقق عدلي وطبيب، وعامليْ حفر بمساحيهم، يتوسطهم مُعتقل مقيد يقودهم إلى مكان جريمة قتل ارتكبها لسبب غير واضح، ودفن الجثة في مكان ما صار يزعم أنه لم يعد يتذكره. الأمكنة التي تتحرك فيها السيارات مرتفعات لا توحي بالراحة. ما من موسيقى تصويرية، فالمخرج وجد في صوت محركات السيارات وصوت الريح الشتائية ما يلائم مناخ فيلمه.

Ad

مع الوقت تصبح الجثة التي في مكان ما هي مركز الحدث، وهدفه. تقودهم كجاذبية سحرية في عتمة الليل. تتوقف السيارات بين حين وآخر لتختبر ذاكرة المعتقل بشأن هذا المكان أو ذاك. والفريق لا يملك من أمره وسط البراري الموحشة غير أن يتحدث مع بعضه في أمور شخصية لا قيمة لها، على الأقل في علاقتها بالملاحقة التي تبدو أحياناً عابثة لجثة ضحية في مكان مجهول. في رغبة للاستراحة يستضيفهم مختار قرية صغيرة. بعد تناول الطعام تدخل عليهم ابنة المختار بالشاي، تحمله في صينية يتوسطها فانوس نفطي، يكشف عن ملامح فتاة بالغة السحر. جمال ينتسب إلى لوحات رسام مثل رامبرانت. إلى إشراقة روحية تُطل علينا من الغيب. تبعث ضرباً من اليقظة في الجميع، حتى أن القاتل الشاب أجهش بالبكاء وكأنه استيقظ فجأة على مقدار خسارته.

الفيلم ليلي، شتائي في «برار» لا تتوقف فيها الريح. ينتهي، بعد العثور على الجثة المكبلة بإحكام، إلى مستشفى في مدينة صغيرة، ثم إلى غرفة تشريح الموتى، أو القتلى لغرض التحقق. الجراح جزار حقيقي ينصرف إلى النبش في أعضاء الجثة بلا مبالاة. يكتشف تراباً في الرئة فيقترح: «لعل القتيل دُفن حياً!» والطبيب المتأمل يصلُ بصمته ومراقبته هذا العالم العابث بعالم آخر بالغ الغموض.

فيلم أنطونيوني «الانفجار» (1966)، الذي يحوم كالعنقاء حول جريمة قتل، ينتهي بشبان يلعبون كرة طائرة وهمية. فيلم جايلان هذا ينتهي بأطفال يلعبون كرة قدم. وكلاهما يسعى بالمشاهد إلى أفق ميتافيزيقي تتزاحم فيه التساؤلات.

شاهدت أكثر من فيلم في الأيام العشرة الماضية:

The Artist, Ordet (The Word), Metcheal, Dangerous Methods, Coriolanus. وهي جديدة باستثناء الفيلم الدنماركي «الكلمة» (1955). «الفنان» بالغ الطرافة والجمال لأنه يعتمد إغواء العودة إلى الفيلم الصامت بالأسود والأبيض. تخرج منه بخفة طائر، على عكس «ميشيل» الفرنسي الذي يقبض الروح بفعل موضوعه (شاب منحرف بصورة مرضية يختطف صبياً في قبو بيته ويواصل اغتصابه...)، وبفعل تقنيته الفرنسية البطيئة دون علة. «أساليب خطرة» يقتطع مرحلة خلاف حاسمة بين عالميْ النفس «فرويد» و«يونغ»، ويعرضها علينا في مناخ علاقة عاطفية بين «يونغ» والشابة الروسية التي أرسلها له «فرويد» للعلاج. في حين يذهب فيلم «الكلمة» إلى مدى أعمق، شأن «ذات يوم في الأناضول»، وشأن أفلام السويدي «بيرغمان». عائلة فلاحية متدينة، تدفعها مطامحها الروحية إلى عوائق محزنة. الحوار عماد الفيلم. دائم وغني بين أب يبحث عن سلام في الإيمان المعتدل، ابن مجنون يتصور نفسه المسيح (بفعل غرق في قراءة كيركغارد)، وآخر شاب صغير عاشق، وثالث لا إيمان له. أما «كوريولانوس» (عن مسرحية لشكسبير بالعنوان ذاته) فبالغ الدموية في تصوير عصاب الطاغية الذي لا يلين.

أفلام تُشبع النفس المعبأة بالتساؤلات.