لكل فن سرّه الخاص، الذي يشفّ من خلال جاذبيته وسحره وقدرته الغامضة على إحداث التأثير المطلوب. وفن السينما يكمن سره في الكثير من المؤثرات السمعية والبصرية، ولكن يبقى سحره الأكثر جذباً بالنسبة إليّ متمثلاً في فن الحوار ولغة الجسد.

Ad

في الأفلام الأجنبية خاصة، هناك حرفية مذهلة في إدارة الحوارات بين الممثلين، فلكل جملة معنى ولكل كلمة وقع ولكل مشهد تفريعات وامتدادات تخدم الهيكل العام لرسالة الفيلم. وتكاد وأنت تستمع للكلمات وتتأمل لغة الجسد وتعبيرات الوجوه وإيحاءات كل حركة والتفاتة ونأمة أنك إزاء قطعة من الحياة النابضة. بل لماذا نقول (قطعة من الحياة)، والفن كما هو معروف أجمل من الواقع. فالواقع عادة ما يكون متشظياً وفوضوياً وبعيداً عن الكمال. أما الفن فعادة ما ينحو نحو التركيز ولمّ شتات الحياة الناقصة.

ولعل سرّ جاذبية الأفلام تكمن في أنها تخلق لنا هذا الوهم الجميل باكتمال لحظات الحياة وخصوبتها العارمة. إن حواراً سينمائياً يدور بين زوجين أو حبيبين أو طبيب ومريضه أو موظف ورئيسه أو أم وطفلها... إلخ، عادة ما يصور حالة من الصدق الشعوري والعاطفي والنفسي ضمن هالة من البهاء الإنساني النادر، فتأتي الكلمة أو القُبلة أو الدمعة أو الغضبة في توقيتها الصحيح ولحظتها المثالية. فيتمنى أحدنا لو كانت لحظات الحياة فعلاً بهذا الإحكام والثراء، أو كان لأحدنا هذه البديهة الحاضرة حين التفوّه بما يجب أن يُقال أو يُفعَل في اللحظات الثمينة والمواقف الحياتية النادرة.

خالص الامتنان لمبدعي الفن السابع، لأنهم أكملوا حياتنا الناقصة المتشظية بنسخة أخرى أكثر إحكاماً وثراءً.

............................

على صفيح ساخن:

حين مراجعة أي مستشفى أو مركز طبي في البلاد، سوف يقابلك هذا الإعلان الذي تنتشر هذه الأيام ملصقاته في جميع الأقسام، ونصه كالآتي:

"مقتضى تطبيق المادتين 134 و135 من قانون الجزاء: كل من أهان بالقول أو بالإشارة أو استعمل القوة والعنف ضد موظف عام، يُعاقب بالحبس من ثلاثة إلى ستة شهور وغرامة خمسمائة دينار كويتي".

وقد ظننتُ أن هذا الإعلان مقتصر على المستشفيات والمراكز الطبية الحكومية، إلى أن صادفت هذا الملصق على كاونتر إحدى المستشفيات الخاصة المرموقة، ونصه: "لن نتغاضى عن أي سلوك يتسم بالعنف، العدوانية، الإساءة أو التهديد تجاه الموظفين أو المرضى، وفي حال حدوث أي تصرف من هذا النوع سيتم استدعاء الأمن وإبلاغ الشرطة".

ويبدو أنه لمزيد من الإيضاح ولفت النظر، تم إلحاق الإعلان السالف بصورة لاثنين يمسك أحدهما بتلابيب الآخر، مع تأطير الصورة بعلامة (ممنوع) المعرّفة بدائرة حمراء يقطعها خط عرضي!

أعتقد أنه من الاستحالة وجود مثل هذه الإعلانات المخجلة في المؤسسات الخدمية كالمستشفيات وغيرها في بلد آخر (متحضر أو غير متحضر) غير الكويت!! وكان من الأجدى عندنا وضعها أيضاً في المدارس الثانوية والجامعات والبنوك والوزارات والجمعيات التعاونية، بل وحتى عند كل إشارة مرور وتقاطع! ذلك أن شعبنا الأبيّ بات يعيش على صفيح ساخن، وأصبح الشجار والملاسنات والاعتداءات الجسدية مسلسلاً يومياً سمجاً دون رادع من خُلق أو لياقة. بل يبدو أن تكريس العنف اللفظي والجسدي بات من أدبيات المرحلة، وبات من لا يحسن أو يستسيغ هذا العنف (غريبَ الوجهِ واليدِ واللسانِ) كما يقول المتنبي!

إن انتشار أي ظاهرة وتكريسها لا يمكن أن يتم إلا إذا كانت تحقق غاية أو تعود بفائدة، ويبدو أن الغاية المتحققة من وراء استخدام العنف هي الحصول على المكاسب بأسرع الطرق. فالمرشح (الملسون) الذي يفجُر بالقول يحصد أكثر الأصوات نحو مقعد البرلمان، والطالب الجامعي المعنِّف لأستاذه يحصد أعلى الدرجات، والضارب لخادمه أو المعتدي على خادمته يحصل على أفضل التسهيلات في ترحيل الخدم إلى بلادهم على جناح السرعة، والموظف الذي يأخذ حقه بيده ولسانه سرعان ما يترقى بلمح البصر! ... وهكذا دواليك! وأمام هذا الإمعان في التعسف والعنف، يظل القانون وتطبيق القانون في سبات عميق! وإن تم تطبيقه فلن يكون بتلك العقوبات الرادعة أو الأنياب الفاتكة! إذ ما أسهل أن تشبع نزعاتك العدوانية وتذلّ خلق الله بمئة دينار أو حتى بخمسمئة دينار!

لم يبقَ إلا أن نقول إن انهيار الأمم والشعوب يبدأ من هنا. فهل من متعظ؟!