فرنسا وحشرجة الموت

نشر في 20-12-2012
آخر تحديث 20-12-2012 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت كان إعلان وكالة "موديز" في نوفمبر خفض تصنيفها لديون فرنسا السيادية بدرجة واحدة من (أأأ) سبباً في دفع أحد المدونين إلى السخرية من ميل وكالات التصنيف إما إلى تقييم الأمور بشكل خاطئ تماماً، وإما الانتباه فجأة إلى أزمة كانت جلية واضحة كالشمس.

يمزح المدون قائلاً: "إذا كان هذا الاعتراف من قِبَل إحدى وكالات التصنيف بأن فرنسا تعاني مشاكل بمنزلة مثال للفشل من النوع الأول، فمن المؤكد أن التعافي قد بدأ بالفعل؛ أما إذا كان مثالاً للفشل من النوع الثاني فهذا يعني أن البلاد تواجه حسابات عصيبة".

تزعم حكومة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أنها انتبهت إلى التهديد. وفي مقابلة أجريت معه أخيراً، شَبَّه وزير المالية بيير موسكوفيتشي التدابير التي يجري اتخاذها للحد من أعباء الديون المستحقة على البلاد واستعادة القدرة التنافسية "بالثورة التي أحدثها كوبرنيكوس... لأن هذه الخيارات لم تكن واضحة بالنسبة إلى الحكومة الفرنسية أو بالنسبة إلى حكومة يسار الوسط". وكدليل على هذه الواقعية الجديدة أعلنت الحكومة بصخب استجابتها لتلك المجموعة من التوصيات المتعلقة بالسياسات والتي قدمها فريق من الخبراء تحت قيادة المدير التنفيذي لويس جالوا قبل أسبوعين من خفض تصنيف فرنسا. وتدور الاستجابة حول خفض الضرائب على المرتبات، والذي سيقابله خفض الإنفاق وزيادة ضريبة القيمة المضافة. في الفترة التي سبقت خفض التصنيف، قال أحد المحللين في وكالة موديز إن القرار سيستند إلى حد كبير إلى ما إذا كانت الحكومة قد استجابت للدعوة في تقرير جالوا إلى "تعريض الاقتصاد الفرنسي لصدمة القدرة التنافسية". وبالتالي فإن خفض التصنيف يوحي بأن وكالة موديز رأت أن استجابة الحكومة لم تكن كافية.

الواقع أن هذا القرار السلبي لا يمس المأزق الذي تعيشه فرنسا إلا بصعوبة. فالصورة الكاملة لن تتضح قبل أن تتم دراسة الدوافع خلف الاستجابة غير الكافية من جانب الحكومة.

ويكمن التفسير الأساسي في ثقافة النخبة الحاكمة في فرنسا وانحيازاتها المسبقة، وهي النخبة التي يطلق عليها هيئة كبار الموظفين التي شكلتها مدرسة الخدمات المدنية الوطنية التي تخرج فيها هولاند- مثله كمثل كل من سبقوه تقريباً، باستثناء نيكولا ساركوزي. ففي عالمه المنعزل، يتطلب المجتمع المزدهر العادل اقتصاد الدولة الموجه.

ويعمل هذا التفاني في تمكين الدولة من السيطرة على الشؤون الاجتماعية والاقتصادية على خلق شعور بالاستحقاق والعداء للأعمال التجارية بين أهل النخبة الحاكمة، والواقع أن عالم الأعمال بالنسبة إلى زعماء السياسة في فرنسا يرقى إلى منافسة محصلتها صفر والهدف منها الاستيلاء على حصة أكبر من القيمة المضافة الإجمالية لمصلحة المالكين والمديرين، على حساب العمال.

ويُرفَض أي انتقاد موجه إلى هذا النهج المعادي لبيئة الأعمال في فرنسا عادة باعتباره "ليبرالية مفرطة" في مواجهة "النموذج الاجتماعي" الذي تبنته الأمة الفرنسية، ولكن المثال الذي ضربته الدول الإسكندنافية، والذي يجمع بين دولة الرفاهة السخية والسياسات المؤيدة لبيئة الأعمال، تدحض مثل هذه المزاعم. ولا يكمن الفارق الرئيسي بين النموذج الفرنسي الفاشل والنهج الإسكندنافي الأكثر نجاحاً في "نواتج" الرفاهة الاجتماعية (فلا تزال الخدمات العامة في فرنسا، مثل نظام الرعاية الصحية، من بين الأفضل في العالم على الإطلاق)، بل في طريقة تمويلها. إذ يقوم الإنفاق الاجتماعي في الدول الإسكندنافية على فهم مفاده أن المواطنين لابد أن يدفعوا ضرائب أعلى في مقابل الخدمات العامة.

ولكن رغم أن الإنفاق العام في فرنسا- الذي بلغ نحو 56% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2011- لا يقل عن المستويات في الدول الإسكندنافية، بل ربما يزيد عليها، فإن الأسر الفرنسية تدفع معدلات ضريبية أقل على الاستهلاك والدخل الشخصي. ويتم سد الفجوة من خلال مزيج من الإنفاق بالاستدانة وزيادة الضرائب على العمالة.

وبفعل الإفراط في الاقتراض الحكومي وزيادة الضرائب على المرتبات (الضمان الاجتماعي المدفوع من قِبَل أصحاب العمل) استمر وقوع المواطنين تحت وهم مفاده أنهم يحصلون على شيء بلا مقابل، في حين أدى هذا أيضاً إلى إدامة الاعتقاد الخاطئ لدى الحكومات المتعاقبة بأن فرض الضرائب على الشركات وسيلة غير مؤلمة لتمويل الرفاهة الاجتماعية والخدمات العامة، ولكن بات من الواضح على نحو متزايد أن هذا النهج تسبب في تقويض الموارد المالية العامة والقدرة التنافسية- وأن الأسر هي التي تتحمل فاتورة الحساب. (الواقع أن البطالة المرتفعة المزمنة تعني أن هذه كانت حال الأسر لسنوات). والآن يواجه المواطنون ضرائب أعلى وتخفيضات للخدمات العامة.

ويعترض منتقدو النظام الفرنسي على الإحصاءات الخاصة بتكاليف العمل في إطار جهودهم الرامية إلى إثبات أن فرنسا لا تختلف كثيراً عن شركائها التجاريين الرئيسيين في أوروبا، ولكن حقائق العقد الماضي- بما في ذلك الخسارة الكبيرة للحصة في سوق التصدير وانحدار ميزان الحساب الجاري بنسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي- ترسم صورة مختلفة. وعلاوة على ذلك، يغفل هذا الخط الدفاعي عن نقطة مهمة وهي أن عبء الضرائب على المرتبات، إلى جانب القيود التنظيمية المفرطة المفروضة على سوق العمل، يعمل على خنق روح المغامرة التجارية. وإذا لم تكن الزيادات الضريبية التي أقرها هولاند- على الدخل (بما في ذلك معدل ضريبي مؤقت بنسبة 75% على أكثر الأسر ثراءً في البلاد)، والأرباح، والأرباح الرأسمالية، والأصول الرأسمالية- كافية لردع أصحاب المشاريع، فإن تكاليف استئجار العمال وصعوبة فصلهم تظل من بين المثبطات القوية. وبعيداً عن الإشارة إلى التحول المؤيد لقطاع الأعمال، فإن استجابة حكومة هولاند لتقرير جالوا تعكس عقلية التدخل الدائم من قِبَل النخبة الفرنسية. فبدلاً من تنفيذ تخفيضات عميقة ودائمة في الضرائب على المرتبات التي تتحملها الشركات، فإن الحكومة ستعطي الشركات 20 مليار يورو (26 مليار دولار أميركي) في هيئة ائتمان على ضريبة الدخل على مدى العامين المقبلين. ومع مطالبة الشركات بتطبيق الخصم النقدي على الاستثمار وخلق فرص العمل، فقد صورت الحكومة هذه التدابير بوصفها خفضاً للضرائب على العمالة ومن شأنه أن يعزز تشغيل العمالة. ولكن الإعفاء الضريبي المؤقت لا يكفي لتغيير الحوافز.

فضلاً عن ذلك فإن الشركات لن تتلقى النقد قبل الفترة 2014- 2015، نظراً لتعقيد الإدارة الضريبية في فرنسا. وعندما تحصل عليه فإن الدولة لا تستطيع أن تجزم ما إذا كانت إعادة الاستثمار في نفس المشاريع قد تكون أعظم فائدة من دفع الأرباح على الأسهم والتي يستطيع المساهمون استخدامها لتمويل مشاريع جديدة.

ومرة أخرى، يعمل المشرعون الفرنسيون استناداً إلى اقتناع مفاده أنهم أفضل علماً من المشاركين في السوق. وبعيداً عن الوعود بخفض القيود التنظيمية المفروضة على تشغيل العمالة، فإن كل التدابير الجديدة تتلخص في توجيه المسؤولين لأموال الدولة والإعانات إلى الشركات والمشاريع التي يختارونها كيفما شاؤوا.

وعلى هذا فإن حشرجة الموت الصادرة عن النموذج الاقتصادي الفرنسي لا تزال مسموعة، ولا يبقى إلا أن ننتظر لنرى كيف قد تكون النهاية. وسواء جاءت النهاية في هيئة إضراب لرأس المال من قِبَل حاملي السندات الأجانب، أو في هيئة إضرابات عمالية داخلية واضطرابات اجتماعية وسياسية أوسع نطاقاً، فإن زعماء فرنسا غير مهيئين على الإطلاق لاستقبال ما لا مفر منه.

* بريجيت جرانفيل ، أستاذة الاقتصاد الدولي والسياسة الاقتصادية في كلية الأعمال والإدارة كوين ماري في جامعة لندن، ومؤلفة كتاب "تَذَكُر التضخم".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top