خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي، كانت تجربة الكويت الرائدة على مختلف الأصعدة محط أنظار البلدان المجاورة، بل ومختلف البلدان النامية. في تلك الحقبة من الزمن كانت الكويت في صدارة دول المنطقة، بل والدول المصدرة للنفط قاطبة في حسن ومهارة توظيف عوائدها النفطية في الاعمار والتنمية.

Ad

في تلك الحقبة من الزمن، امتلكت الكويت زمام المبادرة من خلال تضافر جهود قطاعاتها الثلاثة العام والخاص والمشترك، فشيدت بنية تحتية من الطرق والموانئ والخدمات كانت تعد الأفضل في منطقة الخليج، وأنشأت مناطق صناعية متنوعة أطلقت فيها مشروعات إنتاجية صناعية تصديرية ناجحة.

نهضة صناعية

في ذلك الزمن بنيت مصفاة الشعيبة؛ أول مصفاة هيدروجينية في العالم، وبدأت مصانع البتروكيماويات الأساسية، وانطلق مصنع تجميع وتصدير شاحنات ماجروس ذات التقنية الملائمة للبيئة الصحراوية، وشيدت مصانع هندسية وتعدينية عملاقة شمل انتاجها ولم يقتصر على الأنابيب المعدنية والصهاريج واللوحات الكهربائية، فضلا عن سلسلة مصانع مواد البناء والسجاد والأدوات الصحية والتوسع في المنتجات الاستهلاكية المتنوعة، وغير ذلك مما لا يتسع المجال لذكره في هذه العجالة.

حوافز وتسهيلات

دورة تراخيص المشروعات الكبيرة كانت سريعة وغير معقدة. توفير الأراضي والحوافز والتسهيلات الائتمانية كان سمة رئيسية من سمات الاقتصاد المحلي. بل ذاعت شهرة الكويت في تلك الحقبة بوصفها ممولا رئيسيا على الصعيد الدولي من خلال أذرع شركاتها الاستثمارية الثلاث الكبرى، حيث وفرت التمويل لمئات المشروعات الانتاجية الخارجية، بل ولبلديات مدن أوروبية وحكومات من خلال إدارتها ومساهمتها في القروض الدولية المشتركة.

تلك النهضة الاقتصادية، كانت توازيها وتواكبها نهضة تعليمية وصحية وثقافية وفنية ورياضية هائلة، لا يمكن لأي عين أن تخطئ وهجها ورونقها. البلاد كلها كانت تعمل كخلية نحل تسابق زمنها في بناء الكويت الحديثة. فماذا حدث بعد ذلك؟

لست أقلل هنا من آثار وتداعيات الكوارث التي تعرضت لها الكويت وأدت الى انتكاسة الاقتصاد الوطني ومعه كل الأصعدة الأخرى بعد السبعينيات من القرن الماضي بدءاً من أزمة المناخ عام 1982 ومرورا بأزمة السوق النفطي عام 1985 وتداعيات الحرب العراقية الايرانية على مدى عقد الثمانينيات في القرن الماضي وانتهاء بكارثة الغزو العراقي في مطلع تسعينيات القرن الماضي.

مخرج وحيد

ولكننا الآن نقترب من نهاية عام 2012، ولا نفتقد روح وزخم وفعالية السبعينيات فحسب، بل نرى كما ترى كل عين مبصرة ونسمع كما تسمع كل أذن مفتوحة هذا التراجع المريع في كفاءة ومستوى الخدمات، وهذا التمدد الرهيب في عقبات البيروقراطية، وهو ما دفع المستثمرين الكويتيين الى اقتناص فرص واعدة في دول أخرى، وأدى الى نزوح نحو 50 مليار دولار من الثروات الخاصة الى خارجها.

ولعل ما تتداوله الأوساط الاقتصادية الآن عن هجرة المصانع الكويتية الى الخفجي والى غيرها من مراكز الاستقطاب في دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى ليس سوى نتاج طبيعي لتلك العقبات.

ولا أعتقد أن ثمة مخرجا يمكن أن يعيد الكويت الى سابق عهدها سوى تذليل العقبات الادارية والتخلص من غول البيروقراطية المتفشية حتى النخاع في مختلف أجهزة الدولة واداراتها.

* أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت