وأنا أقرأ في رواية الاحتلال للكاتبة الفرنسية آني إرنو، وأغوص في عمق كتابتها السهلة الممتنعة في لغتها السلسة والبسيطة، والمقطرة من كثافة جوهرها فقط دون أي زيادة أو ترهل في المعنى المراد توصيله إلى القارئ، تذكرت كل ما قرأته من روايات جائزة البوكر لهذا العام، وكم عدد الصفحات التي أمر عليها مرور الكرام وبسرعة البرق، بحيث لا تأخذ مني قراءتها أكثر من ساعات قليلة لروايات تعدت عدد صفحاتها 280 صفحة، وأحياناً أكثر من ذلك بكثير، روايات احتشدت بكلام فائض مستهلك ليس أكثر من حشو وثرثرة، ولم تضف أي قيمة للنص الروائي المكتوب.

Ad

روايات آني إرنو مدرسة في الاختزال لتعلم كيفية الكتابة التي بإمكانها أن تصل إلى جوهر المعنى من القضية المطروحة في الرواية دون تزويق وثرثرة فائضة عن صلب العمل، لأنها كتابة آتية من حس عميق وتجربة روحية وحسية جسدية، كونت رؤية خاصة حملت مضمون فلسفتها ومعرفتها وإدراكها في ما تكتبه، لهذا تأتي هذه الكتابة من جذر منبتها ومن روح مصبها حاملة لكل ما مر بها من خبرات وجدانية وروحية وحسية وعقلية، امتزجت كلها في خلاط وعيها الإنساني فولدت نصها الآتي من شبكة الخلايا والأعصاب التي اختزنتها وعايشتها وأدركتها، وبالتالي ولدت وهي حاملة لبصمة أصالتها إبداعها الخاص بها وليس المستورد أو المسروق من إبداعات غيرها.

كتابتها رغم هذه البساطة الشديدة التي لا تحمل أي عناء أو تكلف فإن لها تأثيراً سلطوياً على القارئ، فقد استطاعت أن تأسرني وتحبسني في روح النص والتأمل في كل جملة فيه، ورغم قصر عدد صفحات الرواية التي لا تتجاوز 69 صفحة، لكنها قادرة على بلع وقت القارئ والاستيلاء على وعيه وتركيزه بالكامل، ولن تسمح له بعبورها بمرور الكرام، فكل كلمة وكل جملة وفقرة تدفع إلى التوقف والتأمل فيها لما تحمله من معنى عميق للتجربة المطروحة في الرواية، والآتية من إحساس ووعي نابض بالصدق وبقدرة هائلة ومتمكنة من فهمها ووعيها والقبض عليها، في رؤية تمكنت من مسك زمام الإحساس بها، وهذه هي قدرة الكاتب الأصيل في إبداعه، وهي قدرته على التمكن من القبض على جوهر الإحساس، وصبه في رؤية تحمل مضموناً فلسفياً لما يريد توصيله إلى الآخر.

الرواية تتناول شعور الغيرة التي تنتاب امرأة انفصلت عن زوجها، وهي التي طالبت بهذا الانفصال، وتبدأ معاناتها بعدما يقع في حب امرأة أخرى، وينتقل ليعيش معها، ومن هنا تبدأ مشكلتها رغم أنها هي التي تخلت عنه، وفجأة تتملكها الغيرة بشكل يجعلها محتلة من قبل المرأة الأخرى التي تبات تسكنها وتحتلها على الآخر.

ومن هنا تبدأ رحلتها في البحث لتلقط كل ما يخص المرأة التي دخلت حياة طليقها، حتى باتت مأسورة بها وبتذكر تفاصيل كل ما يخصها بشكل مهووس محموم هاذ بها، فتكتب: أروع ما في الغيرة أنها تملأ مدينة، العالم، بكائن لا يمكن لنا أن نلتقيه أبداً، أصبحت مملوكة امرأة لم أرها يوماً في حياتي، أصبحت مربوطة.

تمكنت آني إرنو من تحليل الشعور بالغيرة، ومن وصف المشاعر السلبية التي تجتاحها، ومن تشريحها لها بدقة وعمق رهيب، استطاع أن يصل إلى جوهر الإحساس بها، وقدرة هائلة على الإتيان بها في كتابة قبضت على الإحساس الداخلي الغائص في الوعي واللاوعي، وأتت به في كتابة مختزلة، مقطرة مكتوبة بحد الشفرة التي شحذت شبكة الخلايا والأعصاب، فجاءت فقط بدم جرحها الذي سال بكتابة ألمه الصادق الحقيقي، بلا أي قطرة زائدة ولا أي جملة فائضة ولا لغة فضفاضة.

هذه كتابة قد تبدو بسيطة ويستسهلها الكثير بغباء من لم يُدرك منها إلا لغتها السهلة المباشرة، لكنها في الواقع هي من أصعب الكتابات لأنها آتية من جرح التجربة الحارقة بألمها والعصية في الوقت ذاته على من لم يمر بها، كتابة صعبة لمن لم يدرك جوهر الوجع والألم الذي هو مفتاح الرؤية الثاقبة الموصلة لإبداع حقيقي آت من صلب التجربة الروحية والحسية والعقلية للكاتب الذي يغرف من إبداعه لا من جيوب الآخرين.