الطغاة يحتلمون بالنهار
لا أفهم الطغاة مهما تفهمتهم، ولا أجيد إدراك أحاسيسهم التي تبدو متبلدة، ولست متأكداً إن كانت لهم أحاسيس أصلاً. ولكني في الغالب أفهم من يحيط بهم من ذباب وبعوض وأشياء أخرى أصغر أو أكبر، ولكنها في كل الأحوال ضئيلة وعديمة القيمة. يتكئ الطغاة على من يحيط بهم ويلومونهم على طغيانهم، بل يقال دائماً إن ذلك الطاغية طيب ولكن المحيطين به أوغاد وأشرار يحترفون المعيشة على حس الآخر القوي، هم سيف مسلول للطاغية، وهم حراس بوابة جهنم، وهم الأوصياء والأتقياء والأوفياء للطاغية لا غير. دماء الآخرين الأغيار بيدهم ماء سائل، صراخ الثكالى بمسامعهم موسيقى حانية، الإحساس لديهم، إن وجد، فهو يدور على مقياس زفير الطاغية، بارد إن برد، وساخن لهيب إن سخن. نحن لن نفهم الطغاة حتى إن فهمنا من هم في محيطهم، حتى وإن بدت على سحنتهم لمحة إنسانية التشكيل. كم من وجوه الطغاة جاءت وتبددت كالشمع في شمس حارقة، إلا أن إعادة الولادة تتجدد فيأتي الطاغية مرة أخرى، ذات الفكرة، ذات الشكل، حتى وإن اختلفت تقاطيعه. مدح أحد الشعراء طاغية فقال له: "يستحيل أن تكون قد قضيت ببطن أمك تسعة أشهر فقط، فجمالك لا بد أن يكون قد استغرق عشرين شهراً". الطاغية يمنطق نفسه ضمن إطاره، ليتمحور حول إزاره، فيشقى ليحتلم بالنهار. بل هو دائم الاحتلام، دائم الالتهام. كلما زاد التهامه لغيره زاد احتلامه، بشبقية غيبية لا تنتهي، حتى ظن أن احتلاماته تلك هي غذاء لعسل ملكات النحل. الطغاة لا ذيل لهم، بل عصعص يدور من أسفل الفخذين إلى لسان الموت، يسعون دائماً إلى إخفائه عن المارة والمتسكعين، فلا يظهر الذيل إلا في زمن الرماد الأجوف لتنتعش الصورة فيضيع الأصل ويتبدد. فالطغاة لا أصل لهم، فهم ليسوا إلا بثوراً على وجه القمر. ليتهم غابوا بأصلهم، إن وجد، أو بصورتهم، لتبدأ بعدهم معركة الغياب بدلاً من حضورهم المعلول. يقتات الطغاة على ضعف الناس وخوفهم من المجهول ومن خوفهم بأن غياب الطاغية يفقدهم الأمان الموهوم، لتستمر لعبة الخوف ليصبح جزءاً من كل. عندما يرحل الطاغية تبدأ الشمس الحقيقية بالإشراق رغماً عن كل الألم الظاهر، ويختفي ذيله المشؤوم، ويغدو بلا ذيل فلا حاجة لإخفائه بعد اليوم. كل يوم يغيب فيه الطاغية وزبانيته هو يوم جديد، وكل يوم جديد مع كل معاناته محطة جديدة، وفسحة جديدة من الأمل، مع كل ما قد يبدو من انحدار في المسار والرؤية. أيها الطغاة في كل مكان آن أوان رحيلكم بذيولكم فالهواء لم يعد يحتملنا. وتبقى المأساة الأزلية إن عاد ذيل الطاغية المفقود ليتشكل من جديد فيلد لنا طاغية أو طغاة جدداً.