ليس من قبيل المصادفة أن تعيش فكرة ما قروناً، ويمتد فضاؤها إلى طبقة الأوزون، وتصبح الأمل والرجاء للشعوب كافة للخلاص من سطوة الدكتاتوريات وركام الاستبداد والارتقاء بالدولة المدنية إلى مستوى عال من الشفافية السياسية والاقتصادية، مع شرعنة التبادل كأسلوب أمثل للحكم وترسيخ دولة المواطنة.

Ad

فالديمقراطية دون كل الأيديولوجيات والأفكار والرؤى التي ولدت عبر التاريخ وتعثرت في تحقيق نظام إنساني يوازيها، إذ دخلت مكتبة التاريخ وبقيت هي «فاتنة الشعوب» ومرادها والحياة الأخرى لها, فلم تبخل هذه الشعوب في تقديم القرابين للارتباط بها، ورغم عمرها المديد والممتد من القرن السادس ق.م فإنها لم تَشِخ، وفي كل حقبة تمر عليها تزداد شبابا وألقاً.

وها هي الآن تخوض مراساً صعباً في ساحات الاستبداد المشرقي باتجاهين: الأول في سورية حيث تقوم بكنس الاستبداد وأفعاله الإجرامية لتقيم مجتمع الحرية والإنسانية، والثاني لإسقاط زيف من حملوها عنواناً لمشروعهم المدني المفترض «قبلاً» وتبرؤوا منها ومن أي التزام تجاهها «بعداً»، واستخدموها كقناع لخداع الناخب في تونس ومصر، ومن ثم عادوا إلى أصولهم الشمولية في أول امتحان لهم لإرساء معالم الدولة الديمقراطية، وهي الآن ماضية بفضل الحراك المدني في إزالة هذا القناع الذي لم يمض على ارتدائه عدة شهور، وهذا إنجاز قياسي للديمقراطية في كشف هؤلاء المزيفين وإسقاطهم.

حالتا الانسداد والانشطار اللتان تسودان المجتمع المصري بعد صعود التيار الديني إلى السلطة المتمثل «بالإخوان» كانتا متوقعتين باعتبارهما نقيضتي المدنية والديمقراطية، ولكن الاحتكام إلى الصندوق الانتخابي يدفعك للقبول بما هو معلن بعيداً عن النوايا،  «وهذه إحدى مثالب الديمقراطية»، وها هو المجتمع المصري يدفع فاتورة هذا الاختيار حيث عادت الثورة إلى المربع الأول، وعاد الصراع مع الاستبداد من جديد إنما بصعوبة أكبر لأن الخصم هذه المرة «أصولي التوجه»، بل يعتبر نفسه الناطق باسم السماء!

خيار الدولة المدنية الديمقراطية لن يكون خيارا «إسلامويا» مهما اتسعت مدنية الطرح والإصدار لديهم؛ لأن «الخليفة المطلق» ثقافة وخيار مقدس للتيار الديني في معظم تصنيفاته، وهذا الخيار ربما يكون مؤجلاً، ولكنه غير قابل للمس.

المشهد السوري لا يبتعد كثيراً عن المشهدين المصري والتونسي حيث الاستعدادات «لأسلمة الدولة» وبقناع المدنية بعد سقوط النظام قائمة، وها هم الإخوان المسلمون ينتقلون من مجلس إلى آخر ومن كتيبة إلى أخرى حاملين معهم الأموال لشراء الولاءات والذمم.

ولكن المشهد المصري سيكون له تأثير سلبي فيهم، وربما أفشل خططهم في تأمين توافق وطني على برنامجهم المدني «المتخيل» لأن الشعوب لم تعد «لدنة» بحيث تنقاد مرة أخرى وراء مشاريع وشعارات مزيفة.

وما على المجتمع المدني السوري بكل مكوناته وتنوعاته إلا أن يكون مستعدا بعد سقوط الطاغية الأسد لحراك بناء الدولة المدنية التعددية؛ لأن المزاج الأميركي والغربي لم يعد مدنيا بالمنطقة، والتيار الديني بات بحكم «الرعاية» الدولية، وما ذهاب القيادي الإخواني «العريان» إلى أميركا وفي أحلك الظروف الحالية التي تمر بها مصر إلا تأكيد لحالة الاحتضان، ناهيك عن الزيارات السلفية إلى السفارة الأميركية في مصر، إضافة إلى عدم اكتراث أميركا والمجتمع الدولي بتهميش الأقباط في الدستور الحالي المزمع الاستفتاء عليه رغم قلقها على الأقليات بالمنطقة.

سورية لن تسلم من المخاض، ولكننا نراهن على الوعي الديمقراطي لشعبنا، وعلى تنوعه في إقامة مجتمع الحرية والتعدد، إضافة إلى حيوية الشعب المصري وقوة إصراره على إنجاز أهداف ثورته المدنية الديمقراطية، والتي ستعطي بلا شك دفعا إيجابيا لليبرالية الدولة، فالحراك قائم والثورة مستمرة حتى ازدهار الربيع العربي.