سيصدم ديكارت لو عرف أن هذا ما قابل عبارته الشهيرة: "أنا أفكر... إذن أنا موجود"، فديكارت اعتبر الوجود مقروناً بالتفكير الحر واسترساله عبر عمليات حرة تبحث عن الحلول قبل استحضار الجاهز منها؛ بينما نصفع عملية التفكير بمفهوم "العقلانية" مشتقاً من "ربط البعير إلى وتد أو مكان واحد"، كما يشير المعجم لدلالة مصدر كلمة "عَقَلَ"!
وبهذا كأن العقلانية عملية توبيخ للتفكير، تزجر الفكر وتردعه كلما اتبع سؤالاً أو تأمل هاجساً، لأنه -مقارنة بالبعير والوتد- هام في صحراء شاسعة، أهوالها شياطين وعفاريت لا بد من الفتك بها!وعندما نستحضر مفردة "الشيطان"؛ فإنها تأتي محملة بمنظومة الإرث الديني، بوصفه الفسيولوجي المكون من النار، ووصفه المعنوي رمزاً للشر واللعنة والنفي من جنة الخلد، ولذلك فإن عملية التفكير المارقة عن المساحة المحددة سلفاً، ستنتفي عنها صفة "العقلانية" المشدودة إلى الأوتاد المغروسة، وستوصم بالغواية وبالتالي المس الشيطاني، إن لم يكن التفكير الشيطاني نفسه.ما جعلني أكتب في هذا المضمار هو قراءتي مقتطفات من كتاب المؤلف البريطاني تريفور موستين "الرقابة في المجتمعات الإسلامية" الصادر بالإنكليزية عن دار الساقي التي تشير إلى أشكال الرقابة ونتائج عقوباتها، وما لفت نظري فيها تحديداً العقوبة الغريبة النادرة ضد المواثيق الإنسانية كافة التي كفلت حق التفكير وحرية التعبير والفكر والوجدان والدين، والتي اتفقت عليها أغلب الدساتير الدولية، متمثلة في العقوبات القانونية على "القراءة" و"التفكير" في إيران، لتكون العقوبات الأولى على ممارسات ثقافية من دون أي مذكرات تفسيرية للمقصود بتلك البنود المرعبة:- "قراءة" كتب هرطقة READING Heretical Books- "التفكير" بأفكار شريرة THINKING Evil Thoughtsويستكمل: (يبقى تحديد "نوع" الكتب المقروءة وماهية الأفكار التي تدور داخل تجويف الجمجمة والحكم بكونها "هرطقة" أو "شريرة" أو خلافهما حصراً على الملالي في المحاكم الثورية الإيرانية، مستدلاً على تقرير مرعب نشرته "صنداي تايمز" اللندنية في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين عن قانون القصاص الإسلامي الإيراني جاء فيه: "تم قطع أطراف 1700 مواطن "إيراني" لأسباب مختلفة خلال سنة واحدة فقط من مارس 1983 إلى مارس 1984)، وهي ما لا يختلف كثيراً عن عقوبات كثيرة نفذت لأسباب تقترب منها دون قوانين تفضحها وتدينها في دول كثيرة تتبنى حدوداً إسلامية بتفسير جامد حدي لا يقبل النقاش، أو حتى النظر من رؤى تنبثق من الفكر الإسلامي نفسه، وبعيداً عن هذا الكتاب؛ لا يخلو العالم الغربي من ممارسات شبيهة، ولكن أكثرها نفذ في عهود مظلمة غابرة.أعود إلى مفهوم "التفكير الشيطاني"؛ التهمة الجاهزة الجائعة لتلتهم بعض العقول المفكرة، لتدينها وتقتص منها دون إعطائها حرية الدفاع عن نفسها أو أن تتحمل المساءلة، في ظل دراسات تشير إلى أن الإنسان يُفكر في المتوسِط حوالي أربع فكَر منفصلة في الدقيقة الواحدة- جامعة مينسوتا- أي ما يقارب 4000 فكرة يومياً، كلها تتفاعل وتتضارب وتتنافس للوصول إلى "حل"، وحتى لو كانت إلى جريمة وتفكير تدميري، كيف يمكن القبض على تلك الفكرة؟ بتقييد اليدين التي تتصفح كتاباً عن تفاصيل ارتكاب الجرائم؟ أم بتشريح مخ كاتب استعصى على رجال الدين استيعاب مقاصده، أم بإيقاد قدر كبير يغلي لكاتب فلتت منه فكرة يرون أنها تزلزل كتباً ضخمة قد تضلل البشرية؟لا يمكن لنا أن نرتقي بقيم الإنسانية ما لم نحتفِ بالورع بعيداً عن محاكم التفتيش المتنقلة التي تشرع أسلحة التعذيب والعقوبات، بالعقلانية التي تردع التوحش عن بني الإنسان قبل أن تلجم الفكر من ممارسة طبيعته، بالإنسان الإنسان... قبل اتهامه بأنه كائن شيطاني، وأن للآخر حق معاقبته وقتله بكل صلافة وجشع... باسم الله!
مقالات
أنا أفكر... إذن أنا شيطان
27-09-2012