القصيدة واللوحة 1-2
إذا كانت العلاقة بين الشعر والتصوير، كانت مؤجلة في ما مضى، فهي لم تعد كذلك في الوقت الراهن، بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك في مقارنة هذه العلاقة منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر عندما دشّن الشاعر الفرنسي بودلير، عصر الحداثة بتتبع الرسام في الحياة العصرية، الحداثة ابنة المدينة وأخت الكآبة، هي التي ستغطي عصراً كاملاً يمتد حتى وقتنا الراهن. تكمن ميزة بودلير في تلك الالتفاتة المبكرة والثاقبة على صدارة الألوان، التصوير والرسم، بنظرة نقدية لأعمال ديلاكروا، وتيرنر وأنجرز وآخرين، كما ذهب بعد ذلك إلى أشكال العمارة والأيقونات، والتماثيل وألوانها على ما ذهب في ما بعد أيضاً الناقد والمفكر الألماني فالتر بنجامين، أن هذه الاسترجاعات المدينية ستجد لها محلاً عميقاً في قصائد بودلير النثرية، (سأم باريس) "لذا فحيز ما يؤدي اللوحة بما هي هوى وانحياز إلى جهة تنعقد عليها أوسع آفاق الرؤية وأعرضها هو القصيدة" على ما يوضح وضاح شرارة في الأنيق الماجن - دراسة عن بودلير، أن منعطف الانطباعية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اخترق على نحو شديد الخصوبة المناطق المعتمة لمختلف الفنون بحيث ألقت ضوءاً فريداً على الحياة المعاصرة، فإذا كان "الرسم هو شرف الفن" وفق أنجرز فإن هذه المقولة ستفتح الطريق لديلاكروا وكوربيه ودوبنيه، لينفتح باب الحرية أمام الانطباعيين وصولاً إلى الحركات والاتجاهات الفنية، التي ستكون أمامها كل الآفاق مفتوحة منذ أوائل القرن العشرين. فها هو بول كلي يقول: "الآن بدأت الأشياء تراني" وينخرط كاندينسكي في البحث عن الروحي في الفن ليقترب من ملامسة الشعر، على أن الحركات السوريالية والدادائية، قبل ذلك ستمزج عناصر كل من الشعر والرسم والتصوير والكولاج في عملية تركيب وتوليف وصلت إلى حدود اللعب. إن هذا التداخل المخصّب بين الكتابة الشعرية والفنون البصرية دفع مفهوم العلامة أو الأثر إلى الظهور بقوة، ونحن نعرف أن كثيراً من الشعراء والفنانين قاموا بالمزاوجة بين هذين النشاطين الإبداعيين من أندريه بروتون إلى هانز آرب وماكس آرنست، ووليم بليك وصولاً إلى لوركا وهنري ميشو وآخرين. لم يكن الشعر والتشكيل مجالين متنافرين ومتصارعين بل ان نقاط الجذب بينهما هي التي أفضت إلى نوع من الحميمية بينهما، بحيث أصبح طائر الشعر يطير بأجنحة الرسم. هل يتعلق الأمر هنا بنوع من الاندماج؟ أغلب الظن عندي أن الأمر يتعلق بنوع من التنافذ السري والخفي بين هذين المجالين. إن البحث عن العناصر "الشعرية" في اللوحة يقابله البحث عن عناصر وفضاءات تشكيلية بصرية في العمل الشعري، ففي الخط الصيني مثلاً وكذلك العربي الإسلامي تقوم اللوحة على بناءات بصرية بما في ذلك استخدام عنصري الامتلاء والفراغ، بقدر عال من التجريد لاختبار قوة الهشاشة، بل ان المنظور العربي الإسلامي يذهب في هذا المجال إلى أبعد من ذلك لتصبح التجربة نوعاً من الرحلة الروحية لاستبطان الوجود، ألم يقل الشبلي أنا النقطة تحت الباء؟
لنتأمل الآن المشهد الشعري والبصري "في الغرب"، ولو على نحو مختصر منذ بداية الخمسينيات والستينيات، وصولاً إلى الآن، إن هذه المرحلة التي غالباً ما يُطلق عليها اسم ما بعد الحداثة، تكاد تجسد نوعاً من الالتباس يكاد يفوق الحدود بين العناصر التعبيرية، بل وحتى الإلغاء أحياناً. هذه الطليعية الجديدة بفعل طغيان الفردانية وغياب الإيديولوجيات والتيارات السائدة على صعيد المجتمعات الغربية، أدخل حقل التعبير الشعري إلى منطقة أخرى مازجاً إياه بكل أنواع الفنون البصرية وغير البصرية، وبالتالي رُدمت الفجوة بين حقل تعبيري وآخر.