يستدعي الاحتفال بغالب هلسا (1989i-1932) مفكراً التأمل حول هذا الروائي الكبير الذي لطالما قيل في بعض المطبوعات اللبنانية إنه من المغيبين والمهمشين في الثقافة العربية، رغم أهميته الروائية والفكرية والأدبية. لكن المتابع للإصدارات عنه في عمان والندوات التي أقيمت حول رواياته في بعض المؤسسات الأردنية يلاحظ مدى حضوره في بلده، على الأقل في الأوساط الثقافية.

Ad

في سنوات قليلة قرأنا عن غالب هلسا مجموعة كبيرة من الكتب البحثية أو المحاضرات التي صدرت في كتب أبرزها: «أعمال غالب هلسا الإبداعية بين المؤلف والسارد» لهيام أحمد العلي شعبان، «البنية الزمنية في روايات غالب هلسا من النظرية إلى التطبيق» لمحمد عبد الله قواسمة، «ﻓﻜﺭ ﻏﺎﻟﺏ ﻫاﻠﺴﺎ ﺍﻟﻨﻘﺩﻱ/ ﺩﺭﺍﺴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﻬﺞ ﻭﺍﻟﺘﻁﺒﻴﻕ» لحسن ﻋﻠﻴﺎﻥ، و{غالب هلسا الأديب الرافض» لصالح الحمارنة، وفيها ملامح من سيرة هلسا قبل مغادرته العاصمة الأردنية عمّان، وتنقله منفيّاً بين عواصم عربية عدة، ممتزجة بقراءة نقدية لمواقفه حيال المرأة، والفكر الفلسفي في الإسلام، والمشروع الفكري عند ابن المقفع، وغيرها من قضايا.

 ويشتمل كتاب «غالب هلسا مفكرا» على أوراق الندوة التي عقدتها الرابطة في عام 2005 في مركز الحسين الثقافي، بمشاركة 16 باحثاً من الأردن وغيره من البلدان العربية، فيما يتضمن كتاب «عالم غالب هلسا» نصوص الندوات والمداخلات في أسبوع غالب هلسا الذي أقامته مؤسسة «شومان» في عام 1992. أما في عام 2003 فأصدرت دار «أزمنة» في الأردن أعمال هلسا الروائية الكاملة في وقت كان من النادر أن نجد رواية له في المكتبات الثقافية باستثناء «سلطانة» المتوافرة على بعض الـ{بسطات» أو الأكشاك اللبنانية.

جاء في بيان «أزمة» حول أعمال هلسا: «تعد الأعمال الروائية لهلسا أكثر النتاجات الأدبية الأردنية إلفاتاً في القرن العشرين. فهي تحظى بمكانة رفيعة داخل السرد الروائي العربي. وبتقدير خاص من لدن القراء والكتاب والنقاد العرب على السواء. مع ذلك، لم يتسن لكثير من أبناء آخر جيلين من هؤلاء الإطلاع على روايات هلسا جميعها، إذ صدرت هذه في سنوات متباعدة وأمكنة متفرقة، ولم يحظ أغلبها حتى بطبعات ثانية ذات انتشار واسع يتفق مع قيمتها وأهميتها، كما أن أياً منها لم يصدر في بلد الكاتب. من هنا أخذت دار أزمنة في عمان على عاتقها إنجاز هذا المشروع الأدبي الضخم والملح»...

زمن الحرب

 طبعت أعمال هلسا الروائية في عمان ولكن من الصعب أن يجدها القارئ في مكتبات بيروت مثلاً، ربما عليه أن يشتريها عبر الإنترنت. من هنا، نعود إلى مسألة توزيع الكتب في العالم العربي التي تبقى الأساس في إيصال الثقافة والنتاجات الثقافية. أحسب أن كل شيء في الثقافة رهن بالمكان والإعلام، فجل الكتب التي صدرت حول أعمال هلسا في الأردن تبقى «مغمورة» ولم تفد كثيراً في إعادة الاعتبار إلى الروائي الكبير، على أن ثمة كتابات ومقالات كتبت حول هلسا في بيروت تحتاج إلى تسليط الضوء عليها مجدداً مثل بعض مقالات الروائي إلياس خوري والناقد محمد دكروب والشاعر عباس بيضون والروائي حسن داوود. تلك المقالات التي احتفلت بالروائي في وقت مبكر قبل أن يأتي الإنترنت وطوفانه، وهي الآن في أسر المطبوعات اللبنانية.

من يقرأ سيرة هلسا يعرف مآل الثقافة العربية، فالروائي ذاق في زمن الحرب الباردة والأنظمة العربية التشرد والطرد والسجن والمنفى، كانت في مسيرته مجموعة أقنعة عن أحوال الثقافة والأنظمة والسياسة. كان هلسا روائياً مسيساً ونقل مرارة السياسات العربية.

ولد غالب هلسا في قرية ماعين (محافظة مادبا) في الأردن، أنهى دراسته الثانوية في عمان في مدرسة المطران ثم توجه إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأميركية في قسم الصحافة. بعد مرور عام، اعتقل في طرابلس، ولاحقته بعد ذلك السلطات في بيروت، فعاد إلى الأردن وسُجن في سجن المحطة ونُقل بعده إلى معتقل الجفر الصحراوي. كذلك فرضت عليه الإقامة الجبرية في مدينة مادبا. كتب في روايتي «الضحك» و{البكاء على الأطلال» عن أجواء هذه الفترة بطريقة الـ{فلاش باك»، وقد حاول فرد الصور ولملمتها مع صور حياته وواقعه الجديد في القاهرة فأحال أوجاعه وحنينه إلى فهم جديد لغاية الحياة ذاتها.

تدريب عسكري

سافر هلسا إلى العراق ولكنه اعتقل عام 1954 ورُحِّل إلى الأردن. تلقى تدريباً عسكرياً عام 1956 وتوجه إلى مدينة الإسماعيلية المصرية. كان آنذاك، ما زال طالباً مع زملائه المصريين للمساهمة في مقاومة العدوان الثلاثي على مصر. وفي ما بعد، اعتُقل في مصر مع بعض اليساريين عام 1966. في خصم موجة الصراع بين المثقف والسلطة، خصوصاً في المرحلة الناصرية، كتب عن المصريين ومصاعبهم وإشكالات الحراك الاجتماعي والسياسي الذي عايشه وشارك فيه كواحد منهم. أوقفته السلطات المصرية عام 1976 إثر قراءته بيان المثقفين المصريين احتجاجاً على زيارة السادات للقدس وأجبرته على الرحيل.

 أنجز هلسا في مصر غالبية رواياته: «الضحك، البكاء على الأطلال، الخماسين، السؤال، الروائيون»... وأقام في بغداد لثلاث سنوات عمل خلالها في مجلة «الأقلام»، وكتب عن تجربته العراقية رواية «ثلاثة وجوه لبغداد». كذلك له دراسات عدة  حول الأدب الاسرائيلي، وقد ترجم «الحارس في حقل الشوفان» لسالنجر، و{جماليات المكان» لغاستون باشلار.

في عام 1978، انتقل هلسا للعيش في بيروت التي غادرها بحراً في سبتمبر 1982 مع المقاتلين الفلسطينيين إلى عدن. سافر بعدها إلى إثيوبيا ومنها إلى برلين. بعد مرور عام، عاد إلى دمشق واستقر فيها حتى يوم وفاته في 18 ديسمبر 1989 .

 من خلال سيرة غالب هلسا، نلمح وقع المثقف الذي عاش أزمات بلدان كثيرة حتى صار بهويات كثيرة بين اللبنانية والسورية والعراقية والمصرية، إلى جانب هويته الأساسية، أي الأردنية.