أظن، ولعل كثيرين يشاطرونني هذا الظن، أن ما كُتب حول تاريخ الكويت السياسي والاجتماعي حتى هذه اللحظة، لا يتعدى الاجتهادات الفردية والجهود الخاصة لثلة من المهتمين بهذا الحقل، أمثال الشيخ عبدالعزيز الرشيد وأبوحاكمة وأحمد الشرباصي وسيف مرزوق الشملان سابقاً. أما الآن فلعل الاجتهادات لا تتعدى ما يُقدّم من أوراق بحثية في مجالات أكاديمية صرفة، عادة ما تُكتب لنيل الترقية في الجامعة والمؤسسات التعليمية الموازية. ولم تكن هذه الكتابات المبعثرة لتؤسس في يوم من الأيام لأي مشروع متكامل وشامل في كتابة التاريخ المحلي.
يلحّ عليّ هذا الخاطر وأنا أعايش ويعايش غيري الذكرى الثانية والعشرين للغزو العراقي على الكويت منذ أيام قلائل، والتي مرت مرّ السحاب بلا اهتمام ودون جلبة!اثنتان وعشرون سنة مرت علينا منذ الغزو، وليس في جعبة سجلنا الاجتماعي والشعبي والسياسي غير حفنة متناثرة من الاجتهادات الشخصية ضمن مؤلفات يغلب عليها الارتجال وفورة العاطفة، وتنقصها المنهجية العلمية والموضوعية. لا أحد يشكك في أريحية من كتب وألف لتوثيق الغزو أو يطعن في مصداقيته وحماسه، ولكن الكتابة التاريخية والتوثيقية لها أدواتها وعلماؤها وأساليبها ودقتها المنهجية.اثنتان وعشرون سنة كرّت سريعاً، والحدث التاريخي المهم بكل ملابساته وشواهده وإحداثياته لايزال مجرد ذكريات تقلبّها الألسن ويتسامر بها الناس في المجالس والدواوين، ويقصها الآباء والأمهات على الأطفال كلما عنّت الحاجة وكأنهم يقصون حكايات ألف ليلة وليلة والسندباد البحري! ولا نزال بعد مرور هذه السنوات لا مرجع لنا غير الروايات الشفاهية وموهبة الحكي! والتساؤل هو: كم سيتسنى للذكريات من مدى لتبقى طرية طازجة؟! وكم سيتسنى للرواة والحكواتيين من زمن وعمر قبل أن تنتهي آجالهم وتندثر حكاياتهم؟ نطلق هذا التساؤل قبل أن تمر عشرون سنة قادمة، وقبل أن تبلى ذاكرة من عاصروا الغزو وتذهب ذكرياتهم ومشاهداتهم وتجاربهم أدراج الرياح!من جهة أخرى، شهدنا في السنوات الأخيرة انتهاء آجال كوكبة من المثقفين والأدباء والمفكرين والاقتصاديين والساسة ورجال الدولة، وكنا نشهدهم يرحلون واحداً وراء الآخر، دون أن تتحرك الهمم لتسجيل وتوثيق سيرهم ومساهماتهم وآثارهم في المؤسسات والقطاعات التي شغلوها. ومما يُؤسف له ان ثقافة التدوين والتأليف حول التجارب العملية والحياتية تكاد تكون مفقودة حتى عند النخبة والشخصيات المؤثرة، مما يضاعف من ضرورة تدارك هذا النقص الفادح في توثيق ما يُسمى بالتاريخ الاجتماعي. والتاريخ الاجتماعي في النهاية ليس إلا خلاصة لمساهمات وإنجازات هذه الكوكبة من المشتغلين بالهمّ العام، وممن كانت لهم أدوار مشهودة في التنمية الاجتماعية.أعتقد أنه آن الأوان لتدارك هذه الفجوة في ما يتعلق بتاريخنا السياسي والاجتماعي الحديث، وذلك بالتنادي لتبني مشروع قومي، مهمته التأسيس لمجلس أعلى يُعنى بالتوثيق والتأريخ لحياتنا المعاصرة، وذلك عن طريق الاستعانة بفرق عمل مؤهلة تتصف بالمهنية، وتستهدي بالمنهجية العلمية، لتوثق لنا تاريخ المرحلة بعيداً عن الأهواء والارتجال والميول الفردية والروايات المبتسرة.هذا المشروع يستحق أن يُصرف عليه بسخاء وكرم، وأن يُحاط برعاية عليا، ويُدار بإخلاص وتفانٍ، فأوانه قد آن، والتسويف في إنجازه لن يكون في صالح المستقبل.إن الشعوب والمجتمعات ليست سوى أرض تعمّر وزمن يمر وتاريخ يُروى، ولولا شغف الإنسان بالتدوين والتأريخ لما بقي للدول ذكر ولا للبشر أثر.وإن كان ديدن الشعوب والجماعات منذ أقدم الحضارات النقش على الحجر والعظم والجلد للإبقاء على تاريخهم وآثارهم، فما هو عذرنا الآن ونحن نعيش عصر الكمبيوتر ونتسنم قمة التكنولوجيا؟!(*) كتب الزميلان د. غانم النجار وأفراح الهندال مقالين يوم السبت 4 أغسطس في (الجريدة) حول ذكريات عن الغزو لم تُدوّن بعد! أهدي لهما هذا المقال الذي كتبته منذ عامين، فلعل الذكرى تنفع المؤمنين.
توابل - ثقافات
إلى أفراح وغانم (*)
07-08-2012