مع دخول العالم إلى عام آخر تخيم عليه ظلال الأزمة المالية والاقتصادية الكئيبة، أصبحنا في احتياج إلى نظرة أوسع لمعالم الاقتصاد العالمي في المستقبل.

Ad

الواقع أن الاتجاهات الأبعد أمداً واضحة، فالأسواق الناشئة الديناميكية في آسيا وأميركا اللاتينية آخذة في الصعود، وتظل دول مثل الولايات المتحدة واليابان تشكل محركات بالغة الأهمية للاقتصاد العالمي، ولكنها تواجه تحديات كبرى فيما يتصل بالديون والعجز، وتمر أوروبا عبر عملية عصيبة، ولكنها تاريخية، تتمثل بإعادة هندسة البنية المؤسسية والتكامل، والشرق الأوسط يتحول أمام أعيننا، وتنطلق دول جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا إلى التنمية المستدامة، وتخلق جبهة جديدة للنمو بعد عقود من الركود.

وتعمل هذه التغيرات على إعادة صياغة مستقبلنا بطريقة إيجابية، ولكن هناك على الرغم من ذلك حواجز كبيرة على الطريق لابد من التغلب عليها، ويظل التعافي الاقتصادي العالمي أضعف مما ينبغي، وفي ظل وجود أكثر من مئتي مليون عاطل في أنحاء العالم المختلفة، فإن إمكانات خلق الوظائف لا تزال قاتمة للغاية، ولا تزال الفجوة بين الأثرياء والفقراء، التي تفاقمت بفعل الأزمة، واسعة للغاية.

وإذا كنا راغبين في تحويل التفاؤل إلى واقع فإن الطريق أمامنا لا يزال صعبا، وأنا أرى ثلاثة معالم رئيسة:

الأول، والأكثر وضوحاً هو أننا نحتاج إلى وضع الأزمة وراءنا إلى الأبد، ونحن نعرف كيف نفعل ذلك: من خلال السياسة النقدية الملائمة؛ وتصحيح الأوضاع المالية في كل الاقتصادات المتقدمة، وهو ما يتضمن وضع خطط ملموسة وواقعية للحد من أحجام الديون في الأمد المتوسط، ولكنها لا تنتقص من النمو في الأمد القريب؛ واستكمال عملية تطهير القطاع المصرفي؛ وتنفيذ الإصلاحات اللازمة لتعزيز الإنتاجية وإمكانات النمو، ولابد من استكمال كل هذا من خلال إعادة توازن الطلب العالمي باتجاه الأسواق الديناميكية، بما في ذلك الاقتصادات الناشئة.

ولعل العقبة الكبرى تتمثل بالتركة الضخمة من الدين العام، الذي بلغ الآن نحو 110% من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات المتقدمة في المتوسط، وهو أعلى مستوى منذ الحرب العالمية الثانية. وهذا من شأنه أن يجعل الحكومات معرضة بدرجة عالية للتحولات الدقيقة في مستويات الثقة، كما يغلّ يد هذه الحكومات، خصوصاً في ظل سعيها إلى إقامة البنية المادية والمؤسسية اللائقة بالقرن الحادي والعشرين، واحترام وعودها الاجتماعية في الوقت نفسه، وستضيف الاحتياجات الناتجة عن الشيخوخة السكانية إلى هذه الضغوط.

ويقدم لنا التاريخ درسين واضحين: الأول أن خفض الدين العام أمر بالغ الصعوبة في غياب النمو، والثاني أن زيادة النمو أمر بالغ الصعوبة في ظل عبء الدين العام الضخم، وهذا يعني أننا نواجه حتمية من شقين؛ تأمين النمو وخفض الديون في نفس الوقت. والمفتاح الرئيسي الآن ليس فقط الانتقال من المداولات إلى العمل على السياسات التي نعلم أنها مطلوبة، بل أيضاً التحرك معاً وعلى كل الجبهات.

ويتلخص المعلم الثاني في تأسيس نظام مالي عالمي أفضل، يتعين علينا أن نتجاوز النظام الذي أوقعنا في الأزمة؛ القطاع المالي الذي تحول إلى دُمية تحركها غطرستها وخصوماتها الجامحة. لا شك أن قدراً كبيراً من التقدم تم إحرازه بالفعل، خصوصاً فيما يتصل بأجندة "بازل 3" من أجل خلق رأسمال ومخازن سيولة أكثر مرونة، ولكن الزخم يتضاءل، سواء فيما يتصل بتنفيذ الإصلاحات المتفق عليها أو إحراز التقدم في مجالات مثل المشتقات المالية والعمل المصرفي الظلي.

ونتيجة لهذا فإن النظام ككل ليس أكثر أماناً الآن مما كان عليه في سبتمبر 2008، عندما انهار "ليمان براذرز"، فلا يزال الأمر بالغ التعقيد؛ ولا تزال الأنشطة مركزة للغاية في المؤسسات الضخمة؛ ويظل شبح "أكبر من أن يُترَك للإفلاس" باقياً، وتُظهِر التجاوزات المستمرة والفضائح المتكررة أن الثقافة المالية لم تتغير حقاً.

ويبدي العديد من العاملين في صناعة الخدمات المالية قلقهم إزاء تكاليف التنظيمات الجديدة، وتشير دراسة حديثة لصندوق النقد الدولي أن التنظيم الأفضل من شأنه حقاً أن يرفع معدلات إقراض البنوك، ولكن بمقدار ضئيل نسبياً. كما وجدنا أيضاً أن زيادة المخزون الاحتياطي من رأس المال إلى مستويات لائقة من شأنه أن يساعد النمو الاقتصادي، وإصلاح النظام الضريبي المفروض على القطاع المالي كفيل أيضاً بأن يساعد في الحد من الإفراط في خوض المجازفة والاستعانة بالروافع المالية.

خلاصة القول إن تكاليف الإصلاح ليست باهظة، أما تكاليف الرضا عن الذات فهي باهظة بكل تأكيد.

ويتعلق المعلم الثالث بنوعية النمو ومدى شموله، ففي حين يشكل النمو ضرورة أساسية للاقتصاد العالمي في المستقبل، فمن الضروري أن يكون من نوعية مختلفة؛ أي أن يكون شاملاً وليس ببساطة مجرد ناتج ثانوي للعولمة غير المقيدة.

والواقع أن العواقب السياسية المترتبة على عملية إعادة التوجه هذه عميقة، والأمر يتطلب سياسة مالية لا تركز على الكفاءة فحسب، بل على الإنصاف أيضاً، خصوصاً العدالة في تقاسم أعباء التكيف، وحماية الضعفاء، وهذا يعني توسيع القدرة على الوصول إلى الائتمان والخدمات المالية في كل مكان، كما يعني المزيد من الشفافية والحكم الرشيد.

إن إنجاز هذه المعالم يستلزم قدراً أعظم من التعاون، وينبغي للعالم الذي يتسم الآن بالترابط القوي أن يعمل سكانه في تعاون كامل إذا أرادوا أن يحققوا الازدهار معاً، ولا يوجد ببساطة خيار آخر، فنحن لاعبون من أطراف عِدة، ولكننا نمارس لعبة واحدة، لعبة لابد أن تكون تعاونية، وليست تنافسية ببساطة. وفي عالم كهذا، تلعب المؤسسات المتعددة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي دوراً بالغ الأهمية في تعزيز التعاون الاقتصادي.

ويقدم لنا عام 2013 الفرصة لتجاوز الأزمة الاقتصادية وتشكيل العالم في هيئة أفضل، ويتعين على صناع القرار السياسي أن ينتهزوا الفرصة، ولن يبخل صندوق النقد الدولي بدعمهم في بناء مستقبل أكثر عدلاً وازدهاراً.

* كريستين لاغارد | Christine Lagarde

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"