أحسنت صحيفة "الوطن" القطرية، وهي في ثوبها الجديد وطلتها الجميلة مبادرتها إلى فتح ملف "أبناء القطرية... هل يستحقون الجنسية؟"، وهو ملف يتعلق بمطلب عادل لقطاع من أبناء الوطن، أمهاتهم قطريات متزوجات من غير قطريين، يعانون بصمت معاناة نفسية هائلة، يعيشون في وطنهم الذي ولدوا وتعلموا فيه ورضعوا الولاء والانتماء إليه لكنهم حرموا جنسيته. ذكرت "الوطن" أن هذه القضية الساخنة -الموجعة والمؤرقة- ظلت محل نقاش في أروقة الصحافة وامتدت إلى الفضاء الإلكتروني لتصير مادة للحوار الحقوقي، أضيف هنا أنها أصبحت قضية ملحة ومطروحة على المستوى الخليجي عامة، لعلاقتها بالأمن المشترك، وبتصحيح الخلل السكاني وتعزيز الهوية الخليجية في مواجهة زحف الفائض البشري على الخليج في ظل الأزمة العالمية.

Ad

قانون الجنسية القطري كبقية قوانين الجنسية لدى معظم الدول العربية يعطي الأب وحده حق منح الجنسية لأبنائه، اعتماداً على معيار "الدم" كأساس لنقل الجنسية، ولا يأخذ بمعيار "الإقليم" مثل أميركا، مثلاً كما لا يأخذ بمعيار حق "الدم" المتساوي للأب والأم كبقية دول العالم المتحضر: أوروبا واليابان والصين، وهذا إرث قديم امتد إلى حاضرنا قوامه "أعلوية الرجل" لكونه الكاسب أو الغانم واعتمدته تشريعاتنا ولم نستطع تجاوزه حتى اليوم، فمن بين 22 دولة عربية تمنح الأب وحده نقل الجنسية لأولاده، توجد 5 دول عربية: تونس، والجزائر، والمغرب، والعراق، وأخيراً دولة الإمارات التي أصدرت بمناسبة اليوم الوطني الـ40 في العام الماضي قراراً بمنح أبناء المواطنات المتزوجات من أجانب الحق في التقدم للحصول على جنسية الدولة حال بلوغهم سن الـ18.

استطلعت "الوطن" آراء أعضاء من مجلس الشورى وقانونيين ومسؤولين وكان التوجه العام مرحباً بمنح الجنسية لأبناء المواطنة مع ضوابط معينة، مع تأكيدهم أن الدولة وإن لم تمنحهم الجنسية بعد فإنها حرصت على كفالة حقوق التعليم والعلاج المجانيين، والعمل لهم بموجب قانون (21) لعام 1989 القاضي بمعاملة الأبناء من أم قطرية معاملة القطريين في التعليم والعلاج والعمل بعد استيفاء شرط الموافقة على الزواج من "الداخلية". وأضاف مدير الشؤون القانونية بوزارة العمل أن قانون الموارد البشرية يعطي الأولوية في التعليم لأبناء القطريات بعد القطريين، كل هذا أمر جيد ومبشر ومقدر... فلماذا شكاوى هؤلاء الأبناء في الصحافة وفي المنتديات من صعوبات تواجههم في البحث عن وظيفة؟!.

الكاتب عبدالله غانم البنعلي تطرق إلى هذا الموضوع في مقالته: حقوق أبناء القطريات- "الوطن" 7/ 10/ 2012، فقال إن البحث عن الوظيفة بالنسبة لهؤلاء كالبحث عن المستحيل، وليتهم بحال بعض الأجانب الذين ينتقلون من جهة إلى أخرى، وإذ يشيد الكاتب بجهود لجنة حقوق الإنسان والمجلس الأعلى للأسرة في الاتجاه بتفعيل القانون على أرض الواقع لتحقيق المساواة بين أبناء القطرية وأبناء المواطنين فإن القضية بحاجة إلى جهود أكبر لتفعيل القانون على أرض الواقع بالصورة التي نتمناها لأبنائنا الأعزاء.

مطلب الأم المواطنة بتجنيس أبنائها، مطلب مشروع وعادل، فإذا احتكمنا إلى دساتير دول مجلس التعاون الخليجي، فإنها تنص على كفالة الحقوق والواجبات المتساوية للمواطنين ذكوراً وإناثاً على حد سواء، ولو ملك الأفراد المتضررون حق الطعن الدستوري في النص القانوني القاضي بحرمانهم من حق ممنوح لنظرائهم لقضت "الدستورية" بحقهم يقيناً، إذ لا مبرر للتفرقة، كما أننا إذا احتكمنا إلى مواثيق حقوق الإنسان التي اعتمدتها دولنا، فإنها تلزم أيضاً بأحقية مطالب الأم المواطنة، أما إذا لجأنا إلى اتفاقية محاربة التمييز ضد المرأة، فهي صريحة بإلغاء أي تمييز بين الرجل والمرأة.

فالقضية عادلة ومشروعة ولا جدال في ذلك، لكني أود أن أناقشها من منظور آخر أراه أكثر أهمية وخطورة. أريد أن أرتقي بالقضية من منظورها الحقوقي إلى منظور الأمن الوطني والأمن الخليجي، أي النظر إلى القضية من كونها قضية حق مشروع لفئة من المواطنين إلى قضية الأمن الخليجي المشترك. في تصوري أن القضية اليوم أصبح لها بعد استراتيجي أعمق يتعلق بسرعة المبادرة إلى معالجة الخلل السكاني في هذا الطوفان البشري الكاسح على الخليج، سواء على مستوى كل دولة خليجية أو على المستوى الخليجي المشترك. الخليج اليوم أمام استحقاقات كبيرة، فالتحديات عديدة وترك الأمور لتفاعلات الزمان يزيدها تعقيداً، لذلك لابد من المبادرة وسرعة التدخل لحسم القضايا العالقة وعدم انتظار ما تأتي به الرياح الهوجاء من حولنا، "قضية أمن الخليج" هي القضية "الحاكمة" اليوم وينبغي أن تصب السياسات والإجراءات كافة في خدمة هذه القضية المصيرية، أو تكون ترجمة صادقة لها وكل ما عاداها أراها قضايا ثانوية، فمنظوري لقضية تجنيس أبناء المواطنة على المستوى الخليجي يقوم على بعدين: الأول، الخليجيون اليوم يشكلون أقلية تتضاءل يوماً بعد يوم في وسط بحر لجي من بشر يتدفقون من دول الفائض السكاني ومن دول المجاعة ومن دول الاضطرابات، هؤلاء أتوا يبتغون فضلاً من ربهم وأمناً وأماناً ومعيشة كريمة، وهم خليط شتى من عادات وثقافات وديانات وهويات لأكثر من 200 جنسية، ونحن إذ نحمد الله تعالى على نعمه الكثيرة، خصوصاً نعمتي الأمن والاستقرار، فإن شكر النعم يستوجب البذل والمساعدة وفتح الأبواب والعطاء وعدم المن. الثاني: تعاظم المخاطر المحدقة بالخليج بعد ثورات الربيع العربي وتغير السياسة الأميركية في المنطقة لمصلحة التحالف مع الإسلاميين واقتراب إيران من تحقيق حلمها بتملك السلاح النووي.

مهددات الأمن الخليجي الداخلي والخارجي أصبحت متعددة، وإذا كان تحصين الأمن الخليجي المشترك ضد مخاطر وأطماع الخارج هو الاتحاد الخليجي الفاعل، فإن تحسين الأمن الداخلي لدول مجلس التعاون الخليجي لا يكون إلا بتقوية وتعزيز الجبهة الداخلية والهوية الوطنية وزيادة الترابط بين أبناء المجتمع الواحد وكفالة الحقوق المتساوية لهم وإعلاء مفهوم المواطنة والولاء والانتماء، ليكون فوق كل الولاءات والانتماءات الضيقة أو العابرة، وفي تصوري، أن من أبرز العناصر الكفيلة بتقوية الجبهة الداخلية لمجتمعاتنا الخليجية العمل على سرعة "تجنيس أبناء المواطنة". هؤلاء الأبناء الأعزاء الذين ولدوا في هذه الأرض المعطاءة، نشأوا عليها وتربوا فيها وتعلموا في مدارسها وتشربوا الموروث الثقافي والولاء والانتماء عبر أمهم المواطنة، أوفياء لوطنهم، مخلصون له، متفانون في خدمته، لا يعرفون وطناً سواه... أليسوا هم الرافد الأثمن والأسلم والأضمن والأوفى لتعزيز الهوية الخليجية وتحصين الجبهة الداخلية وتقوية مناعتها ضد المهددات والمخاطر المحيطة بخليجنا.

* كاتب قطري