اسحقوا الخرافة والتعصب الديني

نشر في 30-03-2012
آخر تحديث 30-03-2012 | 00:01
No Image Caption
 لمى فريد العثمان انتهيت في المقال السابق عند القرن السابع عشر لعصر النهضة، حيث المعارك الطاحنة بين الكاثوليك والبروتستانت لاتزال دائرة بسبب هيمنة الأصولية والتعصب الديني، وأكمل اليوم بشكل مختصر جانباً من جوانب عصر التنوير في القرن الثامن عشر... لم يأت هذا العصر على طبق من ذهب إنما بعد صراع مرير وعسير بين الجهل والعقل، بين الاستبداد السياسي الديني والحرية السياسية الدينية، بين الانغلاق والانعتاق، بين الوصايا والاستقلال.

لا يمكن اختزال إنجازات عصر التنوير في أحد الأشخاص أو الأفكار إنما تمتد لتشمل مشاريع تنويرية مختلفة ومتعددة وثرية تشكلت في أوروبا من أقصاها إلى أقصاها. كان فولتير الفيلسوف الفرنسي الشهير أحد مشاريع التنوير... الذي أمر الأصوليين بحرق كتبه وكتب غيره من المفكرين، ليشتهر ويقبل الناس على قراءتها، ولطالما ارتكب الأصوليون في كل زمان نفس أساليب التدمير الذاتي، فراح المفكرون في ذلك العصر يكتبون بشكل سري وبدون توقيع أسمائهم في بعض الأحيان، ليبحث عنها الناس وينشرونها بينهم... فالمعركة لم تكن متكافئة لأن التنويريين كانوا قلة في مجابهة الأسلحة الفتاكة للسلطة السياسية والدينية والشعب الذي غيبته الأصولية وشلت عقله.

في ذلك الوقت، الذي تشبه أحداثه أيامنا هذه، كان الأصوليون منقسمين إلى يسوعيين أقل تزمتاً وجانسنيين يكفرون ويهرطقون، بل ويوجبون قتل كل من لا ينتمي إلى عقيدتهم وتفسيرهم الخاص للنصوص، فهم وحدهم الناجون في الآخرة، وكل فريق يدعي أنه يمتلك العقيدة الصحيحة المطلقة، وكل منهم مستعد لأن يرتكب المجازر ويشعل الحروب من أجل حقيقته، حارب فولتير هذه العصبيات الطائفية العمياء، ولاتزال مقولاته، التي تصف تلك العقلية، صالحة للاستهلاك في عالمنا القروسطي، فعلاً "إن الذين يجعلونك تعتقد بما هو مخالف للعقل، قادرون على جعلك ترتكب الفظائع"، حسب تعبير فولتير. لم يكن فولتير مجرد كاتب منظر بل خاض معارك على أرض الواقع دفاعاً عن المضطهدين، حتى عمن يخالفه الفكر أو لم يكن من نفس دينه أو طائفته... ليضرب بذلك مثلاً حقيقياً تجسد في مقولته الشهيرة "قد أختلف معك في الرأي، لكني مستعد لأن أدفع حياتي ثمناً من أجل أن تقول رأيك".

غادر فولتير فرنسا بعد خروجه من سجن الباستيل إلى إنكلترا مردداً "لن يبلغ فساد الطبيعة دركه الأسفل إلا إذا تسلح الجهل بالسلطة"، أدهشته إنكلترا بتسامحها وحريتها ونظامها الملكي الدستوري الذي لا يمكن أن يقتل أحداً لاختلافه في الفكر حتى وإن كان ملحداً، قرأ لفلاسفتها وعاد إلى فرنسا حاملاً معه فكر إنكلترا المتحرر، داعياً لقيمها المتسامحة مقارناً بينها وبين نظام فرنسا الاستبدادي الذي تحالف مع الأصولية، فانتقد مجتمعه ونظامه وكتب كتابه "رسائل إنكليزية" ليحرق الكتاب ويلاحق مرة أخرى، ليختفي ويعيش بقية حياته على الحدود بين فرنسا وسويسرا. وبعد غياب ثلاثين سنة سمح قصر فرساي بعودة فولتير بالرغم من عدم ترحيبهم به، عاد أخيراً إلى مسقط رأسه لتستقبله الحشود والجماهير التي كانت يوماً خانعة وخاضعة للملكية المطلقة والأصولية.

رفضت الكنيسة مراسم دفنه، لتقام له مراسم دفن مهيبة بعد 13 سنة من وفاته، بعد قيام الثورة الفرنسية، ليحضرها 600 ألف فرنسي، ويُنقل جثمانه ليُدفن إلى جوار عظماء فرنسا، وكُتب على قبره "هنا يرقد فولتير الذي حارب المتعصبين والمتزمتين، ودعا إلى روح التسامح الديني، وطالب بحقوق الإنسان ضد العبودية، وحارب نظام الإقطاع، وجعل آفاق النفس البشرية تتسع، وتتعلم معنى الحرية".

"اسحقوا الخرافة والتعصب الديني"... قالها فولتير وناضل ومفكري عصر التنوير من أجلها... زرعت في العقول لتحصد الثورة الفرنسية التي لم يعش فولتير ورفاقه ليشهدوا لحظاتها... فهل سيشهد "فولتيريونا" ومفكرونا الثورة الفكرية التي ستأتي... وإن طال الزمان؟

back to top