ها هو العام الدراسي الثاني من عمر الثورة السورية يضيع هباءً منثوراً على أجيال سورية، ويحرمون من حقهم الإنساني والمعرفي، كما حرموا من حقهم بالحرية والكرامة طوال العقود الماضية، وذلك عن سبق الإصرار والتعمد، عندما دمر النظام السوري كل ما يمت إلى الحياة بصلة، ولم يستثن دور العلم والثقافة ولا الآثار والمتاحف، وبات التدمير شمولياً انسجاماً مع الفكر الذي حكم البلد طيلة العقود المنصرمة.

Ad

وهذا الهدم للأبنية المدرسية لم يكن مصادفة، بل جاء انتقاما منها لأنها أفرزت جيلاً استطاع أن يكسر حاجز الخوف، وأن يقول "لا للظلم وسرقة الأوطان"، خلافا لكل السياسات المعتمدة سياسياً والتي تهدف إلى تفريغ الأجيال من كل محتوى وطني وقيمي.

العام الدراسي يطل على شعوب العالم بمزيد من التفاؤل والأمل بغدٍ أفضل ومستقبل واعد للوطن، إلا على الطلاب السوريين فيمر أمامهم دون أن يجرؤوا على مناداته أو الاقتراب منه رغم الدعوات الرسمية المزيفة للالتحاق به، وذلك خشية شمولهم بقوائم المفقودين ناهيك عن عدم توافر بناء صالح للدراسة.

فالصروح العلمية إما مدمرة، وإما بلا بنية تحتية، وإما أضحت ثكنة عسكرية تنطلق منها قوافل القتل والتشبيح اليومي، وإما مكاناً للاعتقال والتعذيب والتصفية الجسدية لأن تصميم الأبنية الرسمية بما فيها المدرسية وحتى الجامعية في ظل دولة البعث تأخذ بالحسبان أن تتحول يوماً إلى مراكز اعتقال، لذلك فهي في غالبها ذات مواصفات أمنية بامتياز، حيث الأقبية والغرف المغلقة وعوازل الصوت وخلافه، لهذا كان من السهل جعل بعض المدارس مراكز أمنية وعسكرية دونما حساب للمكان وللأجيال.

التدمير الممنهج للعملية التربوية لم يأت من خلال تهديم صروحها فحسب، بل جاء مع صعود البعث للسلطة في عام 1963 عندما عني بالتعليم وشمله برعاية خاصة، حيث ألحقه بدوائره الشمولية وعمّده بقيم البعث وفكر "حافظ الأسد"، وبات مكتباً مهماً من مكاتب البعث، ويحظى برعاية أمنية خاصة لخطورة دوره، إذ أمسى تقديس القائد الملهم ودراسة فكره وقيمه السامية هو المادة والتحصيل ومعيار النجاح والعمل، مما أدى إلى تدني المستوى العلمي وانعدام التفوق والنبوغ والبحث، وتحولت دور العلم إلى دور لمحو الأمية أكثر منها إلى مصانع أجيال ومراكز تنوير علمي وثقافي.

وما يحدث الآن من تدمير وإزالة ما هو إلا بمنزلة الضربة القاضية للبناء التربوي المتصدع أصلاً الذي انهار في أول اختراق لجدار الصوت وذلك لهشاشة التسليح، وستبقى أنقاضه شاهداً على نظام توشح بالعلم، وهو لا يملك منه شيئاً، بل هو غارق في الإجرام حتى أذنيه.

المستعمر الفرنسي بكل صلفه وشروره واستباحته للأرض السورية لم يجرؤ يوماً ولا حتى في أشد عنفوانه على تدنيس أي صرح ديني أو علمي أو ثقافي، وذلك احتراما لمشاعر السكان، وأيضا لقدسية المكان، وما حدث في الجامع الأموي آنذاك يؤكد ذلك عندما احتمى الثوار بأروقة الجامع خشية اعتقالهم، ورغم الحصار الخانق له لم يجرؤوا على اقتحامه احتراماً وخشية من غضب السكان، وكذلك ما حدث في ثانوية المأمون بحلب أيضا وكان مديرها آنذاك فرنسياً وقام بمنع الجنود الفرنسيين بالقوة من اقتحام المكان لملاحقة الثوار الذين لجؤوا إلى المدرسة للحماية... مردداً على مسامعهم "هنا قدس الأقداس فلن أدعكم تدنسوه مهما كانت الذريعة"... فغادروا مكرهين دون المساس بالمكان!

وهنا لسنا بصدد تلميع صورة المستعمر، ولكن لتسليط الضوء على فظاعة وجرائم النظام الأسدي المنعتق من كل القيم الأخلاقية والإنسانية بالمقارنة مع المستعمر، الذي يدون اسمه عادة في الصفحات السوداء بالتاريخ، ولكن ما يفعله هذا النظام اللا إنساني بشعبه لا ندري بأي صفحة وبأي ركن وبأي قلم سندوّن سيرته؟