لم أرتح كثيراً لفكرة تنظيم تظاهرة على هامش الدورة الثامنة والعشرين لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط تحت عنوان «دعم الثورة السورية»، وخالجني شعور خفي بأن النية ليست خالصة لوجه الله، وأن ثمة متاجرة وراء التفكير في تنظيمها.

Ad

استشعرت هذا فور تلقي مكالمة هاتفية من رئيس المهرجان يبلغني فيها بما تنوي إدارة المهرجان الإقدام عليه، وأبديت اعتراضي على الفكرة قبل أن يباغتني بأنها أصبحت في حيز التنفيذ، ولا مجال للتراجع بعدما سارع المركز الصحافي للمهرجان بموافاة الصحف بها.

بنيت اعتراضي على أن المهرجان يزج بنفسه في مواقف سياسية لا قبل له بها، وأن المهرجانات العربية مُطالبة بالدعوة إلى لمّ الشمل، وتوحيد الصف، ونبذ الفرقة بين الأشقاء، بدلاً من الانطواء تحت عباءة الأنظمة السياسية أو الأحزاب الدينية، ومن ثم الاستجابة، ربما من دون أن تدري، للمؤامرات والمُخططات الأجنبية التي تستهدف أمتنا العربية.

سبق السيف العذل، حسبما فهمت، وبعدها حانت اللحظة التي عُقدت فيها الندوة التي دُعي للمشاركة فيها عدد من السوريين فوجئت، وربما فوجيء معي كثر، بأن ليس من بينهم مخرجون بقدر ومكانة عبد اللطيف عبد الحميد، وأسامة محمد، ومحمد ملص... وغيرهم من المبدعين السوريين الكبار، وصُدمت أكثر عندما علمت أن أحداً منهم لم يصل إلى القاهرة، ثم الإسكندرية مقر أنشطة المهرجان، قادماً من سورية مباشرة، وإنما جاؤوا من دول عربية وأوروبية عدة، يعيش غالبيتهم فيها منذ سنوات ليست قصيرة.

لا أدري لم أحسست أنهم جاؤوا بعدما أنجزوا أشغالهم، وفرغوا من ارتباطاتهم، وأدركوا أن «أجندة» مواعيدهم تسمح لهم بأن يتواجدوا في الإسكندرية في ذلك التوقيت ليُعلنوا مواقفهم الثورية، ويؤكدوا تضامنهم الكامل مع أبناء شعبهم.

إنه «النضال في وقت الفراغ»، حسبما رأيته، هو نوع من النضال أعاد إلى ذاكرتي ما كان يجري في حقبة ما، عندما كان «الثوري» أو «المناضل على طريقته» يختار الإقامة في أحد الفنادق الفاخرة في إحدى دول المهجر، ومنها ينطلق إلى «الصالونات» أو يتخفى وراء اسم مجهول في صحيفة مشبوهة التمويل، للحديث عن القضية الفلسطينية، ويُبدي تفانياً عظيماً في خدمتها والتغني بها، عبر شعارات وخطب رنانة، ومع حلول المساء يقبع بمكانه المفضل في «البار» المختار.

بالطبع قيل الكثير في الندوة عن الدور الوطني الذي يؤديه الفنانون الثوار في بلاد الغربة، والأسباب القسرية، والقهرية، التي دفعت بعضهم إلى مغادرة الوطن، بل دافع أحدهم عن وجهة نظره بالقول إن «حمل القلم لا يقل شرفاً عن حمل السلاح»، لكنني لم أتردد في مواجهتهم بمشاعري الحقيقية، ويقيني بأن «النضال عن بعد» ولى زمانه، وأن الثائر الحق هو الذي يعيش معاناة أهله ويتواجد بينهم، بدلاً من أن يكتفي بالتشجيع والتصفيق من «المدرجات» مثلما يفعل الجمهور في مباريات الكرة.

كرم الضيافة والمقولة المصرية «إكرام الضيف واجب»، منعاني من القول بأن شعوراً يعتريني بأن ثمة من يضحي بروحه، ويبذل النفس والنفيس، بينما ينتظر آخرون اللحظة المواتية لاقتناص فوز لم يدفعوا ثمنه، بل لا أبالغ في القول إن ثمة من يناضل، وفي ذهنه أنه يحجز لنفسه مكاناً في «النظام الجديد»، بمعنى أنه يُقدم مسوغات تعيينه وجدارته بالمنصب المأمول، بالحديث بحماسة ووطنية لا تكلفه شيئاً في الندوات، التي يُدعى إليها في فنادق الخمس نجوم، أو المهرجانات التي ينزل ضيفاً عليها، ويخاطب جمهورها لمدة لا تزيد على الساعة، وبمجرد أن ينفض «المولد» يعود إلى «منفاه الاختياري» ليواصل الكفاح والنضال حتى آخر نقطة دم من أبناء شعبه.

تفاوتت ردود الفعل تجاه موقفي، بين مؤيد وغاضب، لكنني غادرت الإسكندرية إلى الأقصر لحضور مهرجانها الأول للسينما المصرية والأوروبية، وهناك تابعت وقائع حفلة ختام مهرجان الإسكندرية، ومراسم تكريم الفنانين السوريين الذين جاؤوا ليقطفوا مبكراً ثمار الثورة، وقرأت تصريح الفنانة السورية التشكيلية لويز عبد الكريم، التي قالت على الملأ: «أخجل لوجودي هنا ومواطنو بلادي يقبعون تحت القصف والقتل»... وأدركت أنني كنت على حق، فقد كنا في حضرة «مناضلين في وقت الفراغ».