لندن تتزاحم فيها دور المسرح، وفي هذه  الدور تتزاحم العروض. وأنا الذي شغلت النفس في عروض الموسيقى والفن والسينما، تيسر لي بدعوة من صديق أن أحضر عرضاً لمسرحي أحب أعماله، ولعلي شاهدت عدداً منها في السنوات البعيدة. العرض لمسرحية «هيدّا غابلر»، والمسرحي هو النرويجي «هنريك إبسِن» (1828-1906). و»هيدّا غابلر» مألوفة لدي، فقد قرأناها مترجمة إلى العربية في الستينيات، كما رأيتها في عمل مسرحي مُخرج سينمائياً بالأسود والأبيض، أدت بطولته «أنغريد بيرغمان». والآن على مسرح The Old Vic، أحد أهم المسارح في العاصمة البريطانية.

Ad

هنريك إبسن نرويجي، ولكنه كتب كل مسرحياته باللغة الدنماركية، وعلى أرض غير أرض بلده النرويج. كتبها على امتداد حياته الإبداعية المكثفة في إيطاليا وألمانيا. ولكن أمكنتها نرويجية، بل محلية تعود إلى مدينته «سكين» المينائية. ولا تخفى أصداء حياته العائلية فيها.

رائد المسرح الذي يُكتب نثراً، بعد أن كانت الدراما شعرية في الأعم الأغلب. والعامل المهم وراء ذلك أن «إبسن» انتزع المسرح من دراما المُثل وكرسها للواقع المُعاش. مسرحياته بهذا المعنى تعالج الواقع الاجتماعي الحي، ولكن عبر النبش فيما يتخفى وراء ظاهر التقاليد الاجتماعية الصارمة من حقائق. الرائع في هذه المعالجة أنها أيقظت، بفعل تركيزها على الفرد لا المجموع، ذلك الالتباس الإنساني الذي يسمح للهاجس الشعري أن يتفجر. ولهذا لسبب كان «إبسن» ملهماً لعدد من الكتاب الذين عاصروه، والذين جاءوا بعده من أمثال برناردشو، أوسكار وايلد، آرثر مِلر، جويْس ويوجين أونيل. وما من غرابة إذن في مقارنة أحد النقاد شخصية «هيدّا غابلر» بشخصية «هاملت». فالالتباس الوجودي حاصل لدى الاثنين.

ظلت «هيدّا غابلر» عرضة لعدد من التأويلات المحيرة. في أول أيام عرضها (1891) كانت المسرحية صادمة للجمهور وللنقاد. لم تعد المرأة طرفاً في الحب، متألقاً أو مثقلاً بالجراح. خرجت عليهم هنا نزوعاً إنسانياً ملتبساً، يستحق الكثير من التأويل من أجل فهمه. هل هي ثائرة في وجه المجتمع، أم ضحيته المستلبة، أم مجرد كيان شرير؟

«هيدّا» تعود من شهر العسل مع زوجها الأكاديمي «تيسمان». واضح أنها لا تحبه بفعل ضعف شخصيته، ولكنها تزوجته لقهر الضجر الذي يعصف بحياتها. حتى أنها لم تكلف نفسها تغيير لقبها العائلي إلى لقب زوجها. يدخل الدراما أكاديمي يُدعى «لوفبورغ»، كاتب ناجح، ومنافس لزوجها في العمل الجامعي، وله علاقة بصديقة لها من أيام الدراسة كانت تعينه في تأليف كتاب يعتبره إنجاز العمر، الأمر الذي كان يثير غيرتها. في ساعة عربدة مخمورة يضيع «لوفبورغ» مخطوطة كتابه، ويزعم لـ»هيدا» أنه مزقها. في حين كانت المخطوطة في حوزتها، أخذتها من زوجها الذي جاء بها وقد عثر عليها مبعثرة.

«هيدّا» تراقب كل هؤلاء الضحايا داخل شبكتها: تحرق المخطوطة في الخفاء، تُفسد العلاقة بين الكاتب وصديقته، تثير هواجس «لوفبورغ» باتجاه الانتحار، وتعطيه مسدساً محشواً ورثته عن أبيها، وتدعوه إلى «موت حر وجميل»، على حد تعبيرها. ولكن الرياح تجري على خلاف رغبة السفن: إذ إن «لوفبورغ» يُقتل خطأ في بيت دعارة ليموت «موتاً رديئاً ومضحكاً»، وصديقته تحتفظ بكل مسودات مخطوطته وتشرع في إعادة كتابتها مع زوج هيدّا». ولكن سر المسدس يعرفه صديق مقرب للعائلة ظل شاهداً على الأحداث، ويوحي لها بذلك فتعرف أنها تحت سطوة رقيب، الأمر الذي دفعها، في آخر مشهد، أن تغادر الجمع الحائر لتقتل نفسها في الغرفة المجاورة.

«أنغريد بيرغمان» في الفيلم القديم، توفر طاقة عالية من التعارض بين وجهها الهادئ السمح وبين الغليان المعتم الذي يعتمل داخلها. ولعل «إبسن» يرغب في ذلك.

الممثلة «داريل دي سليفا» التي شاهدتها على مسرح The Old Vic لا تخلو من خفة دم، وشيطنة فتية، ومزاج حاد وقاطع. ولعل «إبسن» يرغب في ذلك أيضاً. لأن مسعى «هيدّا غابلر» سيظل «يملك منطقاً شخصياً بالغ السرية خاصاً بها»، على حد تعبير أحد النقاد.