ثورات الربيع العربي وعدت الجماهير بآمال عريضة في الحرية والعدالة والكرامة والازدهار ومحاربة الفساد والمحسوبيات، لكن المحصلة، وقد قاربنا على تمام العامين منذ أول شرارة انطلقت في تونس 17 ديسمبر 2010، ما زالت متواضعة، فآمال الجماهير لم تتحقق بعد، وأخشى أن يطول بها الانتظار ولا يتحقق الازدهار المنشود، فظواهر الأمور وإرهاصاتها إلى يومنا هذا لا تنبئ بمستقبل ديمقراطي واعد، ولا تبشر بمشاريع تنموية مزدهرة، ولا تشير إلى عدالة اجتماعية متحققة.

Ad

لقد أثمرت هذه الثورات وصول تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة، وتصدرها المشهد العام، وأصبحت الآمال والوعود والأحلام في عهدتهم، لكن الخشية حاصلة أن تتكرر دروس الإخفاق والفشل مرة أخرى بعد 50 سنة من قيام الثورات العربية على يد الثوار الشباب الحالمين الذين وعدوا شعوبهم غداة الانقلابات العسكرية التي توالت في المنطقة بدءاً بسورية 1949 مروراً بمصر 1952 فالعراق والسودان 1958 ثم اليمن السعيد 1962 وانتهاءً بثورة الفاتح في ليبيا 1969.

بذلوا وعوداً براقة وتعهدوا بتحرير فلسطين وتحقيق الوحدة وإقامة ديمقراطية سليمة وعدالة اجتماعية عريضة، ومشاريع تنموية مزدهرة، ومضى نصف قرن مثقل بالفشل والفساد والطغيان عانت فيه الشعوب العربية الويلات، وتعرضت المجتمعات للهزائم والنكبات، وزج بالمعارضين في غياهب المعتقلات، وتعرضوا لأبشع الانتهاكات، ولا فلسطين تحررت، ولا التنمية تحققت، ولا كرامة الإنسان العربي صينت، والثروات تبددت في مغامرات وانقلابات ومشاريع فاشلة، أفرزت تلك الأوضاع البائسة.

ما نعانيه اليوم من ظواهر التطرف الديني والعنف الإرهابي والتعصب المذهبي والقبلي، وتحول الإنسان العربي إما إلى طائفي متعصب لمذهبه أو قبيلته وإما متطرف إرهابي عنده القابلية لأن يكون قنبلة متفجرة في مطعم شعبي أو مجلس عزاء أو مسجد غاص بالمصلين.

جاءت ثورات الربيع العربي لتعلن الشعوب رفضها لتلك الأوضاع، واجتمعت إرادتها وتحدت حاجز الخوف، معبرة عن تطلعاتها إلى عالم الحرية والعدالة والكرامة، فهل تتحقق آمالها وأحلامها على أيدي الإسلاميين بعد فشل القوميين المتحالفين مع العسكر؟!

بطبيعة الحال فإن الهدم والإزالة أسهل من البناء والنماء، ولكن المتأمل والراصد للتحولات الجارية وبخاصة على الساحة المصرية باعتبارها الأبرز والأكثر تأثيراً في المشهد العام لا يخرج بانطباع إيجابي، فالرئيس المصري عزز قبضته بعد أن بطش بحكم العسكر واستحوذ على كافة السلطات، وأصبح متحكماً بكل المؤسسات، لكن أمامه تحديات ضخمة أبرزها عجز الموازنة وارتفاع البطالة وهروب الاستثمارات والسياحة.

وهناك 20 مليون مصري تحت الـ30 يتعايشون مع الفقر والبطالة في مجتمع يعاني كثافة سكانية هائلة ومواليد متزايدة، وهناك صدام معلن بين مؤسسة القضاء ووزير جديد للعدل غير مرحب به من قبل الوسط القضائي، وقد عهد إليه إخضاع القضاء المصري وتسييسه، وكلف بتطهير القضاء وإعادة هيكلته بما ينسجم ومصالح الإخوان الحاكمين.

وقد سبق لهذا الوزير أن هاجم حكم "الدستورية العليا" بإبطال البرلمان الذي كان يهيمن عليه الإخوان، ووصفه بأنه حكم سياسي لا قضائي، وما كان لهذا الوزير الذي كان قاضياً سابقاً أن ينزلق إلى هذا الاتهام! أتى هذا الوزير حاملاً سيفه معلناً أنه سيقلم أظفار المحكمة الدستورية العليا وهذا نذير سوء!

المناخ السياسي العام في مصر ودول الربيع يتجه إلى مزيد من التضييق على الحريات العامة بكافة أشكالها: حريات الفني والأدبي، التعبير، المعتقد الديني، حقوق الأقليات، المرأة، الحريات الإعلامية وهي الأخطر، الأقليات هناك في محنة عظيمة ولا ضمانات لها في مواجهة الأغلبية، وهي لن تجد في النهاية إلا القبول بوضعية المواطنة من الدرجة الثانية أو الهجرة إلى الغرب، أما مكتسبات المرأة وامتيازاتها فمعرضة للتهميش والانتقاص حتى في تونس، أما الفنون والثقافة فمستقبلها مظلم وتعديات المتشددين الدينيين على كافة تظاهرات الفنون والموسيقى متكررة.

وقد حذرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من أن المجموعات السلفية تنشر الرعب مادياً ومعنوياً ضد النساء والمثقفين والصحافيين، وتعتدي على الحرية الأكاديمية ودور العبادة، وتوظف الدين وتكفر المواطنين وتخونهم، أما الحريات الإعلامية في مصر فينتظرها مصير مغلق بعد سعي الإخوان إلى "أخونة" المؤسسات القومية وتعيين 50 من رؤساء تحرير للصحف القومية.

وقد امتنع عدد من كتاب الصحف مؤخراً عن كتابة مقالاتهم، وتركوا أعمدة بيضاء احتجاجاً على محاولة الإخوان السيطرة على المؤسسات الصحافية القومية، وصرح حمدين صباحي بأن طريقة اختيار رؤساء التحرير هي نفس الطريقة التي كان الحزب الوطني يختار بها رؤساء التحرير لغرض الهيمنة والسيطرة.

لكن الخشية الكبرى اليوم من أن الرئيس المصري الذي أصبح يجمع في قبضته الرئاسة والحكومة والإعلام وسلطة التشريع، قد يعمد إلى إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور المصري الجديد بعد أن يصدر قراراً ببطلان الجمعية التأسيسية الحالية كما توقعت صحيفة الدستور المصرية والتي تتبنى خطاً سياسياً معارضاً للإخوان.

ومع أن الرئيس المصري طمأن الجميع أنه لن يلجأ إلى سلطة التشريع إلا في أضيق الحدود، ولا نية له لإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية إلا أن سوابق الجماعة تشير إلى أن الوعود والتصريحات قد تتغير بتغير الظروف والسياقات السياسية.

تحديات العمليات السياسية في بلاد الربيع العربي والمعوقات الضخمة التي تعترضها، وسعي الإسلاميين لانتهاز الفرص والاستحواذ على مقاليد الأمور وإقصاء القوى الوطنية الأخرى لا تجعلنا نأمل كثيراً في مستقبل هذه الثورات.

إن الجهاد الأكبر هو الجهاد في الداخل من أجل البناء والتنمية وهو، يتطلب تضافر وتعاون كافة جهود أبناء الوطن من دون إقصاء لأي طرف، وعلى القوى الإسلامية الحاكمة أن تدرك أنها انتقلت اليوم من ميدان التنظير والشعارات والأيديولوجيا إلى ميدان الممارسة والتنفيذ والعمل والإنجاز، وأنها بحاجة إلى مساهمة الجميع في هذا الميدان.

وعلى الإسلاميين الكف عن التظاهر بأنهم يملكون الحلول السحرية لمشكلات مجتمعاتهم، وأنهم عبر البنوك الإسلامية والاقتصاد الإسلامي سيتمكنون من حل المشاكل الاقتصادية من دون الاستعانة بمساعدات وقروض المجتمع الدولي والصندوق الدولي وشروطه الإذعانية، وسيحلون المشكلة السياسية عبر نظام الشورى والبيعة، وسيحققون الوحدة الإسلامية عبر نظام الخلافة، وسيعالجون المشاكل الأخلاقية والاجتماعية عبر تشجيع الزواج المبكر ومنع الاختلاط والشرطة الدينية التي تلاحق الناس وتتدخل في خصوصياتهم.

فكل هذه الأساليب والحلول طبقت وجربت في الماضي، وفي مجتمعات عديدة، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أي هدف شرعي أو دنيوي، بل شقيت تلك المجتمعات بها وزادتها نفوراً وإعراضاً وعنفاً.

وليس أمام الإسلاميين الحاكمين اليوم إلا أن يتواضعوا ويعترفوا بأنه ليست هناك حلول ماضوية أو إيديولوجية لمشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية معاصرة، عليهم السعي للإفادة من تجارب ومناهج وأساليب ووسائل المجتمعات المزدهرة، كما أن عليهم أن يدركوا أنهم في النهاية ليسوا أكثر من جماعة أو تيار أو حزب سياسي وطني مثلهم مثل بقية الأحزاب والجماعات الوطنية، فلا ينبغي لها أن تحتكر الدين أو الوطنية، كما أنه لا يصح ادعاء تملك الحقيقة الكاملة لأي جماعة أو حزب أو تيار.

* كاتب قطري