ثورة الطب الحيوي الديمقراطي

نشر في 08-05-2012 | 00:01
آخر تحديث 08-05-2012 | 00:01
No Image Caption
 ستيفن فريند في المستقبل القريب جداً، سيصبح في متناول اليد اقتصادياً إجراء تسلسل الجينوم البشري وجمع كميات هائلة من أشكال البيانات الصحية المختلفة باعتبار ذلك ممارسة طبية معتادة. وهناك بالفعل العديد من الأمثلة اللافتة للنظر للكيفية التي قد تعمل بها هذه البيانات الجينية (الوراثية) الجديدة على تغيير نظرتنا للأمراض وتشخيصها.

ولنتأمل هنا حالة التوأم بيري اللذين ولدا في عام 1996 في سان دييغو بولاية كاليفورنيا. كان الاثنان يعانيان قيئاً مزمناً، ونوبات تشنج، وضعفا عضليا، الأمر الذي حمل والديهما على حملهما في رحلة طويلة من الاختبارات والفحوصات الطبية. وكان التشخيص الأول للحالة الشلل الدماغي الجزئي. ثم تم تشخيصهما في وقت لاحق بالإصابة بخلل التوتر العصبي (ديستونيا)، وهو اضطراب عصبي نادر. ولكن العلاجات التي استندت إلى هذين التشخيصين لم تنجح في التخفيف من الأعراض التي عاناها الطفلان.

وبعد هذه الفترة المحبطة قرر الوالدان إجراء تسلسل الجينوم البشري للتوأم. ولقد كشفت النتائج أن تشخيص الطفلين لم يكن كاملاً. فكان خلل التوتر العصبي الذي تم تشخيصهما بالإصابة به سابقاً ناتجاً عن طفرة جينية تتداخل مع مادة السيروتونين التي تعمل كناقل عصبي. ولقد وجد الأطباء الذين تولوا علاج التوأم أن خلل التوتر العصبي يمكن علاجه بشكل كامل باستخدام مكمل السيروتونين المتوفرة.

لماذا إذن لم تؤد قصص النجاح مثل قصة التوأم بيري، جنباً إلى جنب مع قوة الإنترنت ومجموعة متوفرة بشكل متزايد من البيانات الجزيئية، إلى بناء شبكة معرفية لهذا المرض؟ ولماذا لا يجتهد العلماء والأطباء في تعزيز هذا العلم القائم على البيانات المكثفة من أجل بناء "خرائط" أفضل للأمراض؟

من بين الإجابات المحتملة أنه لا يزال هناك بعض الحواجز الفنية التي قد تعوق بناء واستخدام مثل هذه الشبكات. ومع قدرتنا على توليد كميات هائلة ومتزايدة من البيانات الجزيئية- التي تقترب الآن من تريليونات التريليونات (الرقم واحد يتبعه واحد وعشرون صفرا)- يأتي التحدي المتمثل في تخزين وفك شفرة هذه المعلومات. ولكن العلماء ومهندسي البرمجيات يواجهون مثل هذه التحديات الصعبة بشكل منتظم، وبالاستعانة بالحمض النووي كلغة مرجعية لأبحاث الطب الحيوي الحديثة، فإن الحواجز الفنية التي قد تعوق بناء شبكات للأمراض لن تظل قائمة لفترة طويلة.

إن الحواجز الثقافية هي العائق الحقيقي الذي يحول دون تحقيق هذه الغاية. إننا كبشر متطورون إلى الحد الذي يجعلنا قادرين على التكيف مع محيطنا: فنحن نميل إلى التكيف مع ثقافة ما، سواء اقتنعنا بها أو لم نقتنع، ونغفل عن عيوبها. ولكن عندما نلمح البديل، فإن أوجه القصور التي تعيب ثقافتنا (بل وحتى حماقاتها) تتبدى لنا على الفور، وهو ما قد يؤدي إلى التحول الثقافي، والعمل الجماعي، والتغيير. وكان سقوط سور برلين في نوفمبر 1989، والربيع العربي في وقت أقرب إلى زمننا الحاضر، من الأمثلة الواضحة الدالة على هذه الديناميكية.

وعلى نحو مماثل، يبين لنا مثال التوأم بيري أن بديل الطب القائم على ملاحظة الأعراض من الممكن أن يتوفر بالفعل: ذلك أن قدوم تكنولوجيا الجينوم من الممكن أن يغير ليس ما نعرفه فحسب، بل وعلى نحو أكثر أهمية، كيف نفكر في أنفسنا، أيضاً.

ولكن لكي نبني شبكات الغد للأمراض، فيتعين علينا أن نتجاوز التوجهات الخطية الحالية في التعامل مع العلم وللكيفية التي يعمل بها العلماء. فجميعنا نحب القصص الجيدة التي تتكشف عن نهاية صريحة، ولكن قصة المرض تمر عبر شبكة معلومات متعددة العقد، أشبه بما قد يتتبعه مراقب الحركة الجوية في السماء فوق المطارات الكبرى. والواقع أن البيانات التوضيحية ذات المسارات الخطية التي تعتمد على طريقة "القفل والمفتاح" والتي يعرضها علينا الباحثون في مجال الطب الحيوي غير مكتملة، ولابد من تكميلها بالاستعانة بخرائط الأمراض التي يمكن بناؤها الآن استخدام البيانات الجزيئية.

ويتعين علينا أيضاً أن نشيّد البنية الأساسية وأن نرعى العلاقة اللازمة لتبادل خرائط الأمراض مع الباحثين الأساسيين، والأطباء الممارسين، ومنتجي العقاقير، بل وحتى عامة الناس. وقد يتبين لنا أن هذه المهمة أكثر صعوبة مما نتخيل، لأن الطبيعة المغلقة الحالية التي يتسم بها نظام المعلومات الطبية، فضلاً عن بنية الحوافز الموجهة ذاتياً، من شأنها أن تعرقل هذا التبادل. ذلك أن براءات الاختراع، والعلامات التجارية، والمنافسة على الموارد (البشر والأموال والمكافآت) من شأنها أن تحجب المعلومات وتحول دون القدرة على تحليل البيانات الجزيئية وتبادلها. إن المكافآت في عالم أبحاث الطب الحيوي تذهب إلى "عاملين منفردين"، ولا تفعل شيئاً فيما يتصل بالاعتراف بالأعمال التي لا يمكن القيام بها إلا بالاستعانة بجماعات متعددة الوظائف.

وعلى الرغم من هذه العقبات التي تعوق التقدم، فهناك من الأسباب الوجيهة ما يجعلنا نعتقد أن التحول الثقافي قادم لا محالة: فالآن يعكف الباحثون من مختبرات متباعدة جغرافيا على تشكيل "اتحادات" غير تقليدية، للجمع بين مجموعات البيانات، والعمل عليها بشكل تعاوني، ونشر النتائج ليتولى علماء آخرون تحليلها. إن برامج المسابقات مثل "متحدو الأحلام" و"فولدت" تظهر أن المكتشفات العلمية المهمة من الممكن أن تنشأ خارج الجامعات وشركات الأدوية. والواقع أن شراكات القطاعين العام والخاص بين منتجي العقاقير والباحثين الأساسيين ومجموعات المرضى التي تتبادل المعلومات أصبحت قادرة بشكل متزايد على ترجمة المكتشفات العلمية إلى فوائد محتملة مهمة في مجال العلاج السريري.

ولكن القليل من الاتحادات وبرامج المسابقات والشراكات الناجحة قد لا يكون كافياً لتغيير عالم أبحاث الطب الحيوي. وقد يتطلب الأمر تغييرا تخريبيا، وهنا قد يكون بوسع كل منّا أن يحدث فارقاً عميقا. إن مجموعات المرضى منظمة بالفعل؛ ومن الممكن أن يسجل أعضاؤها الأعراض التي يعانونها على شبكة الإنترنت وأن يدرجوا أنفسهم في التجارب السريرية. وبوسعنا بالفعل أن نحصل على أجزاء من المعلومات الجينية الخاصة بنا ثم نستعين بها في اتخاذ القرارات الطبية القائمة على المعرفة، أو ننضم إلى مجموعات طبية قائمة، أو نكون مجموعات جديدة. وبوسعنا أن نقدم عيناتنا الجينية إلى التجارب القائمة على البيانات لكي نتعرف على احتمالات استجابتنا لعلاجات بعينها. بل ويمكننا أيضاً أن ننظم الدراسات المستقبلية ذاتية التمويل أو ننضم فقط إلى هذه الدراسات التي تعطينا الحق القانوني للإدلاء برأينا فيما يتصل بتوقيت وكيفية استخدام بياناتنا.

وبعبارة أخرى، يتعين على المرضى أن يتجاوزوا كونهم مجرد "مرضى" سلبيين، وأن يشاركوا بنشاط في الضغط على الأطباء والباحثين ومنتجي العقاقير لتخييرهم بين التكيف أو الفناء. إن الطب الديمقراطي يمثل الثمرة الكاملة لثورة معلومات الطب الحيوي. وهناك قِلة من الأهداف التي قد تكون أكثر استحقاقاً لبذل كل جهد ممكن لتحقيقها من هدف الوصول إلى مستقبل حيث يشارك المواطنون المرضى بفعالية في إدارة شؤونهم الصحية.

*رئيس، والمؤسس المشارك، ومدير مركز «سيج بايونيتوركس».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top