يبدو أن "جرّة العسل" التي كانت بين "المجلس العسكري" المصري وجماعة "الإخوان المسلمين"، قد انكسرت نهائياً، كما ضاع الود بين السلفيين و"المجلس العسكري"، وأصبح الأصوليون (الإخوان المسلمون) والسلفيون على خط واحد، مقابل وضد "المجلس العسكري".

Ad

جرّة العسل التي انكسرت!

فبعد أن كلّف "المجلس العسكري" زعماء "الإخوان" بتعديل بعض المواد الدستورية السابقة، وبرئاسة المستشار طارق البشري، ودعا زعيماً دينياً سابقاً لهم (الشيخ يوسف القرضاوي) لزيارة مصر، والصلاة في "ميدان التحرير" مع الملايين من المريدين والنشطاء، وبعد أن ضمن "المجلس العسكري" انتخابات تشريعية حرة ونزيهة، أمكنت الأصوليين والسلفيين، من تحقيق الأغلبية النيابية في مجلسي الشعب والشورى، وبعد أن ألقى "المجلس العسكري" في روع، وفي قلوب، وعقول، وعيون المراقبين والمعلقين السياسيين، من أنه متضامن مع أصولية "الإخوان المسلمين" خاصة، حين رفع عن زعيمهم خيرت الشاطر عقوبات عدة أمكنته من الترشُّح لانتخابات رئاسة الجمهورية، وأمكنت حازم أبو اسماعيل من الترشُّح كذلك، بعد أن تمَّ غضّ النظر عن جنسية والدته الأميركية الراحلة... بعد كل هذا انقلبت الموازين. فأراد "الإخوان المسلمون"، اسقاط حكومة الجنزوري، وتولّي الحكومة لكي يستطيع "الإخوان" ومعهم السلفيون، تنفيذ وعودهم الاقتصادية، والاجتماعية، والدينية لناخبيهم، ولكي يضمنوا أي انتخابات قادمة، مقابل مصداقيتهم أمام ناخبيهم. إلا أن "المجلس العسكري" لم يمكنهم من ذلك، بل لوَّح لهم بعصا حل مجلسي الشعب والشورى، وإجراء انتخابات جديدة، مما أثار حفيظة التيار الديني الرسمي عامة، ودعاه للوقوف أمام "المجلس العسكري"، واضطر "المجلس العسكري" إلى تأكيد تخليه عن السلطة بمجرد انتخاب رئيس جديد للجمهورية في نهاية هذا الشهر (مايو) 2012، وعودته إلى ثكناته، بعد أن رفض "الإخوان المسلمون" دعوة "المجلس العسكري" إلى اجتماع كان سيعقد مع ممثلي الأحزاب الأخرى يوم (1/ 5/ 2012)، لشرح بعض المواقف، وتبرير بعض التصرفات. واتهم "الإخوان" "المجلس العسكري" بإشعال الأزمات، وقالوا إنه هو المسؤول عن كل ما يحصل في مصر الآن، من انفلات أمني، وفوضى ضاربة في الشارع المصري، لكي يبقى في السلطة أطول فترة ممكنة، بعد انتخاب رئيس الجمهورية القادم.

ماذا يجري في مصر؟

وبعيداً عن خلاف "المجلس العسكري" والتيار الديني عموماً، يُفزع ويُصيب الرعب بعض المعلقين، مما يتم في مصر الآن من فوضى، وانفلات أمني، وتدهور اقتصادي وسياسي، خصوصاً بين مصر والسعودية، وبين مصر وبعض البلدان العربية. وقيام التيار الديني، وغير التيار الديني بالتظاهر اليومي العنيف، وظهور كثير من المواطنين على شاشات الفضائيات، ينددون بهذه المظاهرات التي تُعيق أعمالهم، وتُعيق الحياة في مصر عامة، والقاهرة خصوصاً، مما اضطر آلاف السياح من عرب، وخليجيين، وأجانب، إلى إلغاء زيارتهم لمصر، والتوجه الى بلدان أخرى.

فماذا يحدث في مصر الآن؟

في ظني، أن مثل هذه الأحداث "المرعبة"، كانت متوقعة من شعب كان مسجوناً عشرات السنين في سجن كبير، لم يُسمح له بالكلام، ولا بفتح فمه، إلا إذا أراد الهتاف للحاكم. ولم يعرف الإعلام المصري هامشاً محدوداً من الحرية، إلا في السنوات الأخيرة من عهد الرئيس السابق مبارك. فانتشرت الفضائيات المصرية، وصحف المعارضة، التي بدأت تنشر مظاهر الفساد، ومواقعه، والعاملين فيه. وكان على مصر والمصريين الانتظار وقتاً طويلاً، لكي يتم التغيير الجذري والتطور الإصلاحي بعد ثورة 25 يناير2011. وأن "العسل" لن يعود الى الجرار بالسرعة التي توقعوها. فالعسل بطيء الحركة كما نعرف. ولكن سوء الأحوال المصرية الكبير هو الذي سبب الظن بسرعة وصول الحلول، واستقامة الأمور.

ولو قرأنا في تاريخ الثورات البشرية، منذ نهاية القرن السابع عشر الى الآن، لوجدنا أن هذه الثورات، قد مرَّت بما تمرُّ به الثورة المصرية الآن، بل وبأسوأ مما تمرُّ به. وذاقت شعوبها مرارةً أكثر حنظلاً من حنظل المرارة، التي يتجرعها الآن الشعب المصري.

وتلك هي ضريبة الثورة.

وذلك هو فداء التغيير والتطور الإصلاحي.

فوضى لا بُدَّ منها

ولو اقتربنا قليلاً من المشهد المصري على أرض الواقع الآن، ورأينا ماذا يجري في الانتخابات الرئاسية المصرية، لعابَ كثيرٌ من المشاهدين والمراقبين على المصريين ما يجري الآن، من حملات انتخابية ذات مستوى هابط، وخطابات عاطفية مضحكة وطفولية، وتصرفات ومواقف سياسية غير منتظرة. ولكن هذه الفوضى العارمة، التي صوّر جانباً منها المخرج الراحل يوسف شاهين في فيلمه الشهير (هي فوضى)، نتيجة حتمية ومتوقعة في مصر، لأن مثل هذا التنافس الانتخابي الشعبي الحر المفتوح، لم يحدث في تاريخ مصر كلها، كما لم يحدث في تاريخ العرب كله. وما هذا الاستهجان الذي يتمُّ في كل يوم نتيجة لهذه الفوضى، مصدره أننا لم نعتد في الماضي مشاهدة مثل الذي يجري الآن. وكنا نحسب أن طريق الثورة، التي قامت لأول مرة في تاريخ مصر، هي سكة السلامة، وأنها طريق سالكة ليست مزروعة بالأشواك، ولكنها مغروسة بالورود والرياحين، وكنا على خطأ في ذلك. وعلى جهل بتاريخ الثورات الشعبية، وطبيعتها.

مصر بلد ديني ودنيوي

مصر، لمن لا يعرفها جيداً، بلد ديني، ويتمسك بالتقاليد، والأساطير، والشعائر الدينية، تمسكاً يكاد يصل الى درجة التعصب. و"التدين" متأصل في النفس المصرية أكثر من أي شعب عربي آخر. صحيح أن مصر ليست قبلة المسلمين، وليس فيها الحرمان الشريفان كما في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولا يحجُّ إليها المسلمون كل عام.. إلخ. ورغم أن مصر مهد الليبرالية العربية، وظهر فيها علمانيو وليبراليو العرب، وظهرت فيها السينما في الثلاثينيات من القرن الماضي، مع ما صاحبها من انفتاح اجتماعي، وثقافي، فإن التديُّن المصري ظل كبيراً. وظل الجامع الأزهر، وما يمثل من تراث ديني عريق منذ أكثر من ألف سنة، وظلت أضرحة بعض آل البيت في القاهرة، وأضرحة بعض الأولياء من الصوفيين منذ العهد المملوكي شهوداً على عمق التديُّن المصري الشعبي. ومن الملاحظ منذ زمن، أن المصري لا يُقرر قراراً، أو ينطق بجملة، إلا ويتبعها بعبارة "إن شاء الله"، أو "بإذن الله". وينطبق هذا على الممثلين والممثلات والمغنين والمغنيات. وهذه ليست لغواً، بقدر ما تنمُّ عن "التديُّن" الشعبي العميق في النفس المصرية. ولذا، وجدنا في حملة الانتخابات الرئاسية المصرية الحالية، كثيراً من الآيات القرآنية الكريمة، والشعارات الدينية، يرفعها المرشحون لاستمالة الناخب المصري المتديّن.

مصر تبقى جزءاً من هذا الكون

ورغم هذا كله، ورغم هذا الشعور الديني المصري الفياض، ورغم انتشار التديُّن الشعبي، فإن عقل مصر وقلبها، يظلان مفتوحين لرياح العصر، حتى في ظل حكم التيار الديني. فرغم الهجمة الدينية/ السياسية العنيفة من الأصوليين والسلفيين، فإن مصر هي الدولة العربية الوحيدة ،التي قررت في الأمس، السماح لثلاث منظمات دولية لمراقبة الانتخابات الرئاسية المصرية القادمة بعد أيام معدودات، ولم تلتفت إلى ما يقوله الآخرون، من وجوب عدم التدخل الأجنبي في الشؤون المحلية، معتبرةً ذلك من سقط القول، ومن سخف الكلام، ومؤمنةً بكونية العالم ووحدته، وبأنه أصبح قرية صغيرة واحدة، خصوصاً بعد الثورة البشرية الثالثة، المتمثلة بثورة المعلومات والاتصالات، في الإنترنت.

* كاتب أردني