«أشدة الإبل»... تطلق ثورة تغير شكل الجزيرة العربية وتتحول إلى قوة عسكرية (3 - 6)

نشر في 04-12-2012 | 00:01
آخر تحديث 04-12-2012 | 00:01
«عاشق البادية الإنكليزي... المستشرق البروفيسور بروس إنغام»
تعرف على «العربية» مصادفة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، لم تكن من بين اهتماماته الأولى، لم يعرها اهتماماً في بادئ الأمر، كان تركيزه منصباً على ما ورثه من والديه المغرمين بسحر الشرق وفنونه وثقافاته، فقد كان والده ممثلا انكليزيا يعشق القراءة والمطالعة والسفر إلى الهند، لذا هام عشقا في ثقافات الشرق القادمة من الهند والصين وبلاد فارس وباكستان. وكانت أمه مهتمة بالتعرف على حضارات الشرق... لذا ورث الفتى بروس حب الشرق ولغاته وأساطيره.

غير أنه فجأة، وبينما كانت تحيط به الكثير من الثقافات المبهرة الثرية في الصين والهند وبلاد فارس، وبينما هو يعيش في «قلب» الحضارة حيث الطبيعة السخية الخضراء في أحضان مدينة لندن وريفها الذي يغلفه الغمام ليل نهار، أطل ببصره على تلك الحروف القادمة من صحراء العرب القاحلة التي شكلت بالنسبة اليه كلمات غريبة لمحها في دفاتر بعض زملائه من الإيرانيين والباكستانيين، تلك الحروف التي كانت تبدو في عينيه كما لو كانت طلاسم رسمتها أيد ساحرة بارعة في فنون السحر، لفتت انتباهه، فأحب أن يتعلمها وغامر بأن يتعرف على مصدرها ومخارجها وأصولها، وكانت البداية!

لم يكن البروفيسور الإنكليزي بروس إنغام، يدري أن مغامرته الأولى شاباً ستحوله أسيراً، بل بمعنى أدق، هائماً يعيش حالة من الانغماس الكامل في عشق بادية وصحراء ولغة عربية وتفاصيل حياة لم يكن يتوقع يوما من الأيام أن الأقدار ستقوده إليها في هذا المصير... ومازال البروفيسور إنغام، أو حسين الظفيري- كما يحب أن يكنى- يبحث ويتدبر من أجل فك طلاسم سر هذا العشق الذي سيطر على كيانه.

أصبح مربو الإبل يجمع بعضهم بعضاً على شكل قبائل ليحصلوا على حماية مشتركة واستغلال أفضل للمراعي

أستكمل حواراتي مع البروفيسور بروس إنغام المولع بالدراسات المتعلقة بالبادية والقبائل واللهجات واللغات في منطقة الجزيرة العربية وفي مناطق أخرى من العالم...

تجارة القوافل

• أنت من عشاق البدو والبادية، وترى أن بداية ظهور البدو في الجزيرة العربية جاءت بعد انهيار مملكتي الأنباط في البتراء وتدمر كما جاء في مؤلفك الموسوم "لهجة أهل نجد"، كيف ذلك؟

كانت مملكتا الأنباط تقع في شمال الجزيرة العربية. وترك الأنباط لنا أطلالاً شهيرة مثل البتراء في الأردن، وأطلال تدمر في سورية. ويعتقد أن ظهور البدو جاء بعد زوال هاتين المملكتين نتيجة لانهيار تجارة التوابل، والتي يعتقد أنها كانت عاملاً رئيسا لازدهارهما. ويقال إن الأنباط طوروا استخدام الهجن (الإبل)، وذلك بوضع الأشدة على ظهورها تشبها بالفُرس الذين يضعون السروج على صهوات الخيول. ومن ثم استخدم البدو الرحل هذه التكنولوجيا (الأشدة) في حياتهم اليومية في ترحالهم. وبعض القبائل العربية الحالية ما زال يحمل الأسماء القديمة السائدة في بداية الحقبة الإسلامية.

وتجدر الإشارة إلى أن تاريخ الاستيطان في شبه الجزيرة العربية أقدم من تاريخ المجتمعات البدوية التي تربي الإبل. وهذه الأخيرة طبقا للنظرية السائدة في بداية الحقبة المسيحية شقت طريقها إلى المقدمة كقوى مسيطرة على طرق القوافل، وفي وقت لاحق على طرق الحج عبر الجزيرة العربية. وتم أول استئناس للجمل ذي السنام الواحد في جزيرة العرب في الفترة ما بين القرنين السادس عشر والثاني عشر قبل الميلاد.

ممالك الشمال

ومن المرجح أن زيادة تربية الإبل كانت لسد احتياجات النقل من الجزيرة العربية إلى حوض البحر المتوسط وطرق التوابل القديمة. وبالتدريج تطورت مكانة مربي الإبل- الذين توجب عليهم على الأقل التكيف مع حياة الصحراء وزيادة استغلالهم للمراعي- من قيامهم بمهمة وسائط النقل إلى السيطرة على طرق التجارة. ويقال إن تطور استخدام "أشِدّة الجِمال" في شمال شبه الجزيرة العربية في الفترة ما بين سنة 500 قبل الميلاد وسنة 100 قبل الميلاد قد مكن مستخدمي الإبل من تمثيل قوة عسكرية عظيمة، مما أدى إلى ظهور ممالك عربية على تخوم الصحراء مثل مملكة البتراء ومملكة تدمر. ويعتقد أن انتشار البدو أصحاب الإبل بشكل كبير يعود إلى انهيار تجارة القوافل في القرنين الثالث والرابع الميلاديين، واضمحلال ممالك الشمال.

ومع مصاحبة ما ذكر بازدياد عدم الاستقرار أصبح نظام البدو الرحل القبلي أكثر انتشاراً. وأصبح مربو الإبل يتجمعون بعضهم مع بعض على شكل قبائل ليحصلوا على حماية مشتركة واستغلال أفضل للمراعي. ونتيجة لطبيعة المراعي المتغيرة تحولوا إلى حياة الترحال أو حياة البادية والتنقل من مكان إلى آخر حسب احتياجاتهم.

والنظام البدوي القائم على تربية الإبل يعتمد على استحواذ مساحات شاسعة من الأراضي تستغل لمراع متوقعة. ويعزى هذا إلى طبيعة عدم التنبؤ بوجود الغطاء النباتي. فعندما تسقط الأمطار في الشتاء فهذا يؤدي إلى نمو الأعشاب في أوائل الربيع. ويعتمد موضع الأعشاب على مكان هطول الأمطار والخصائص التضاريسية (الطبوغرافية) له، والبدو لديهم معرفة دقيقة بأحوال البادية، إذ يعلمون جيداً اتجاه تدفق مختلف الأودية ويتذكرون مكان هطول الأمطار لكي يتنبأوا بمواضع الأعشاب والمياه الجوفية "الحِسْيَان" والتي يمكن استخدامها صيفاً.

حياة القبيلة

• من هم المستشرقون الأوائل الذين أولوا اهتمامهم بشعر البادية العامي، المسمى الشعر النبطي؟

على ما أعتقد أن أول من قام بتدوين ودراسة نماذج من الشعر النبطي (شعر أبناء الصحراء العربية) هو الفنلندي جورج أوغست والين Gorg August Wallen حيث قام بجمع قصائد أثناء إقامته في منطقة الجوف- سنة 1845- وهو في طريقه إلى حائل، وحصل على دعم لرحلته إلى الجزيرة العربية من قبل الجمعية الجغرافية الروسية ومن الجمعية الجغرافية البريطانية.

تلاه في تدوين الشعر النبطي فيتشتاين Wettzstein الذي كان يعمل  قنصلاً لألمانيا في دمشق. قام بجمع أشعار نبطية ونشرها في كتاب سنة 1868، وزار عشيرة ولد علي العنزية وقابل زعيمها صالح الطيار. وذكر فيتشتاين أنه في سنة 1860 أصاب أراضي البادية قحط نتيجة لخلوها من الأمطار فاجتمع بعض القبائل في مكان يتوفر به الماء والكلأ وتعاهدت على السلام رغم النزاعات بينها وهذه قد تشير إلى قصة معاهدة "فيضة الأديان" المشهورة بين قبائل عنزة والظفير وشمر، والتي جرت فيها أحداث قصة الحثربي المشهورة والتي ذكرتها في كتابي عن قبيلة الظفير.

بحوث رصينة

• لماذا اتجهت إلى دراسة اللهجات بدلاً من دراسة العربية الفصحى؟ ولماذا انصب اهتمامك على اللهجات البدوية بالذات؟

يستغرب كثير من الناس لماذا أدرس اللهجات ولا أدرس اللغة العربية الفصحى، ولماذا أدرس الشعر النبطي لا الشعر الفصيح؛ إنني لست ناقداً أدبياً، وإنما يستهويني الشعر النبطي، وأتذوقه، وجدت فيه إبداعاً فنياً أصيلاً، ومعاني جميلة تعبر عن القيم الاجتماعية من الكرم والشهامة والشجاعة لدى المجموعات البدوية. إن الشعر النبطي يخلد التراث، ويؤرخ الأحداث. إنني أصبحت مغرما بهذا النوع المنظم والراقي من الشعر، هذا الشعر النابع من قلب الجزيرة العربية، والذي يحمل روح ما قبل الإسلام كالمعلقات، على الرغم من أن أنصار الشعر الفصيح يعتبرونه رتيباً غير مبتكر.

استهوتني حياة القبيلة، وأصبحت شغوفا باللهجات البدوية والتراث البدوي الشفوي والشعر النبطي، وعندما أدرس لهجة قبيلة معينة وتراثها فإنني أعتبرها نموذجاً أو حالة (case study)؛ لأنه في الدراسات العلمية لا بد أن تكون الدراسة محصورة ومركزة؛ حتى يمكن تغطية الجوانب بشكل محدد، ومن ثم تكون استنتاجات الدراسة صادقة وعلمية، ومن دراسة الجزئيات يمكن التوصل إلى العموميات.

ويجب أن أشير إلى أن الأستاذ د. سعد الصويان والأستاذ د. محمد باكلا من السعودية لهما أبحاث رصينة جادة حول الشعر النبطي، والتاريخ الشفاهي، واللهجات. وهناك باحث هولندي هو مارسيل كيرتسهوك أيضاً له نفس الاهتمام وقد أصدر كتابين عن طبيعة الشعر النبطي عند قبيلة عتيبة، والشعر النبطي غني بالوصف البديع، لذا فهو يعتبر وسيلة لتعلم اللهجة البدوية ومفرداتها.

وبهذه المناسبة أود أن أشيد بالدور الرائد للصديق د. سعد الصويان بقيامه بإنشاء موقع إلكتروني رائع احتوى الأبحاث والمقالات والمخطوطات والتسجيلات الصوتية المتعلقة بالشعر النبطي، والأساطير والمرويات الشفهية الشعبية، والسوالف في الجزيرة العربية.

التغير العشوائي للهجات

• بصفتك عالماً لغوياً متخصصاً في اللهجات، كيف تعلل هذا التمايز بين اللهجات على مستوى القبائل والمناطق، وكيف يبدو اختلاف اللهجات كظاهرة عالمية في ظل نشوء التكتلات الإقليمية الكبيرة والقارية، كالاتحاد الأوروبي، وعصر العولمة، وإلام ترجع ذلك؟ وما الأسباب الأساسية وراء الاختلافات في اللهجات؟

تعدد اللهجات في أي لغة يعتبر ظاهرة طبيعية، ويرجع في الأساس الى تباعد المسافات بين النشأة، مثلا إذا كان هناك قوم افترقوا وانقسموا وتباعدت المسافات بينهم يقل أو ينقطع التواصل بينهم إلى حد ما، هذا يجعل اللهجة تتغير، لأسباب مختلفة لا يمكن رصدها بدقة، والتغير في اللغة أكثر من الثبات، فمثلا الإنكليز هاجروا إلى أميركا في القرن الخامس عشر تقريباً، ولكنهم الآن يتحدثون بطريقة تختلف عن الإنكليز في المملكة المتحدة من حيث النطق، وإلى حد ما الكلمات وإن كان بشكل محدود.  

أما تفسير هذه الاختلافات في اللهجات، فمع الأسف فإن اللغويين ليس لديهم حتى الآن تفسير مقنع، ويرى البعض أنه تغير عشوائي، أي ليس له سبب معين يمكن تلمسه، ويرى البعض الآخر أن هناك عوامل أخرى مؤثرة كالعامل الاقتصادي وأسلوب الحياة، فمثلا تختلف لهجة أهل المدن عن أهل البادية والفلاحين، إذ إن الحياة في المدن سريعة الوتيرة والناس يتكلمون بسرعة، أما حياة البادية أو الريف فهي بطيئة نسبياً (غير مستعجلين على شيء)، فمثلا لو قارنا بين الإنكليز والايرلنديين، نجد أن الأخيرين كلامهم بطيء؛ لأنهم مجتمع زراعي فالبيئة تعطيهم فرصة الكلام والأخذ والرد... لكن في لندن المسألة تختلف فأسلوب الحياة سريع والإنسان ليس لديه وقت للأخذ والرد فيتكلم بسرعة وبما قل ودل، ويختصر الوقت ما أمكنه ذلك، هنا يلعب العاملان الاجتماعي والاقتصادي دورهما في تغير اللهجة في اللغة الواحدة.

حلاوة لسان العرب

• ما مستقبل اللهجات العربية بشكل عام واللهجات في الجزيرة العربية بشكل خاص؟ وهل للإعلام دور في تعزيزها أو تقلصها؟ وهل هناك لهجة بعينها في الجزيرة العربية تعتبر نموذجية؟

يرى بعض العرب وبعض المستشرقين أن اللغة العربية الفصحى يتضاءل استخدامها في المجموعات الحضرية وأنها لا تزال هي اللغة المحكية لدى البدو. ويعود هذا الاعتقاد إلى أنه كلما بعدت المنطقة وصعب الوصول إليها؛ احتفظت بأصالتها ونقائها وخلوها من دخول كلمات اجنبية إليها. وفي الماضي قلما يزور البدو في حاضرة نَجْد سورية والعراق ومصر وعليه لم يكن ما يعرفه السوريون والعراقيون والمصريون عن لهجتهم إلا النزر اليسير؛ وهكذا فإن أولئك كانوا مصدر هذا الرأي بشكل مباشر. ومع ذلك فهناك بعض الصحة حول هذا الرأي؛ حيث لا مجال للشك حين مقارنتها بلهجات المناطق الأخرى- غير النجدية- بأن لهجات نجد تحتفظ ببعض الخصائص القديمة archaic والمرتبطة باللغة الفصحى أكثر من اللهجات المعروفة الأخرى.

وقد تحدث عن ذلك الرحالة الغربيون الأوائل بعد أن عاشوا بين البدو فترات طويلة. فقد تحدث فيلبي عن لهجة آل مرّة بحماسة قائلا: "حديثهم، دون شك، ليس فقط عربياً بل جميل وفصيح، إنني استمتعت بلغتهم العربية الخالصة والمتقنة التي يتمناها المرء". وأشار بوركهارت إلى لهجة البدو بقوله: "يتفق البدو على استخدام العديد من الكلمات التي يتحدثونها بدقة نحوية". وتحدث داوتي بعاطفة مفعمة قائلاً: "أول مرة سمعت هنا في نجد استخدام (اللاحقة- ان) لها حلاوة تزين اللسان العربي، وتبعث السرور في النفس عندما تسمعها؛ يتحدثونها بتلقائية تنم عن سعة معرفتهم".

لهجة أهل الرياض

وتنبأ البروفيسور جونتسون- الاختصاصي بلهجات الخليج العربي واللغة الحميرية- سنة 1967 قائلاً: "مما لاشك فيه أن اللهجة الكويتية ستنقرض في وقت قصير نسبياً وستستبدل بلهجة محلية مشتركة كوينية (koine) ذات صبغة قومية عربية". ولم تتحقق نبوءته؛ لكن من السهولة بمكان أن نعي لماذا شعر جونتسون بهذا الشعور؛ وهذا يعود إلى أن وسائل الإعلام تهدد هذه اللهجات، وإن بدرجات متفاوتة. وهذا العامل مهم من وجهة نظري المتعاطفة مع اللهجة النجدية ومحاولاتي لوصفها بالأصيلة. علماً بأن أهل نجد قليلو العدد إلا أنهم فخورون بأصالتهم وقوة ثقافتهم الشفاهية ومرونتها، ولهجتهم إحدى لهجات الثقافة العربية الساحرة والموغلة في القدم.

ومن الممكن في المستقبل أن تبرز لهجة أهل الرياض لتشكل لهجة نموذجية عامة لوسط المملكة العربية السعودية، وهذا الاتجاه يمكن تلمسه اليوم. على أن اللافت للنظر أن بروز النموذج يتفادى بعض الخصائص المميزة المحلية؛ وعليه فإن كلام أهل الرياض كنموذج يقترب بطبيعته من اللهجة المشتركة الكوينية، وهذا يؤدي إلى أن اللهجة النموذجية الناشئة قد تكون أقل نجدية بخصائصها من لهجات بلدات وسط نجد الأخرى .

back to top