في نهاية شهر أغسطس الماضي، كان الرجل القوي في جماعة "الإخوان المسلمين" المهندس خيرت الشاطر يتحدث في أحد المؤتمرات، حين فاجأ المجتمعين بالقول إن الجماعة "ليس لديها برنامج واضح ونهائي يمكن أن تفرضه على الناس"، معتبراً أن "مشروع النهضة"، الذي كان المرتكز الأهم في برنامجه الرئاسي، قبل استبعاده من الترشح، والذي بات شعار الرئيس مرسي، ليس سوى "مشروع مبدئي يجب أن يخضع للحوار بين كافة القوى السياسية".
هذا الكلام، فضلاً عن أنه مفاجئ وصادم للغاية، فإنه صادر عن أحد أهم القيادات في جماعة "الإخوان المسلمين"، وأول من قررت الجماعة ترشيحه حين اعتزمت المنافسة على الرئاسة، وهو أيضاً لم يتعرض للنفي من جانب أي من قيادات الجماعة، بمن فيهم الرئيس مرسي والناطق باسمه.ليس هناك إذن "مشروع نهضة" لدى جماعة "الإخوان المسلمين"، ولم يكن هذا المشروع سوى شعار تم استخدامه على نحو دعائي لتعزيز فرص مرشح الجماعة في انتخابات الرئاسة، ولم تقم الجماعة خلال ثمانية عقود من العمل المنظم الشاق، وخلال 20 شهراً من عمر ثورة يناير، وعلى مدى مئة يوم من وصولها إلى سدة الرئاسة بتطوير مثل ذلك المشروع، وهي لا تمتلك سوى أفكار "تحتاج إلى حوار وطني لتحويلها إلى برامج سياسية قابلة للتنفيذ".إنها ورطة حقيقية يجب أن يشعر بها المصريون، لأن قطاعاً كبيراً منهم كان يتوقع أن تبدأ جماعة "الإخوان" بمجرد وصولها إلى السلطة بتطبيق مشروع جاهز ومتكامل للتعامل مع مشكلات مصر وأزماتها المتراكمة، لكن ثمة ورطة أكبر لا يلتفت إليها كثيرون... إنها ورطة جماعة "الإخوان المسلمين" نفسها.تكشف تصريحات الشاطر، كما تكشف الممارسات السياسية لجماعة "الإخوان المسلمين" أيضاً منذ استكمال هيمنتها على السلطة في مصر، عن ورطة كبيرة تتمثل بافتقاد "الجماعة" للرؤية والأفكار والبرامج والسياسات الواضحة للتعاطي مع مشكلات البلاد، كما تكشف أيضاً عما هو أكثر إثارة للدهشة، إذ إن "الجماعة" لم تمتلك كذلك قدرة على اختيار الكوادر المناسبة للمناصب العديدة التي وجدت نفسها فجأة مطالبة بتعيين من يشغلها.يرتاح كثيرون من نقاد "الإخوان المسلمين" إلى التعامل مع تلك "الورطة" باعتبارها "غنيمة" و"فرصة" يمكن من خلالها توجيه الانتقادات المريرة للجماعة وتوجيه اللوم للجمهور الذي "صدّق مشروع النهضة واقتنع به"، مع محاولة لاستخدام الأمر في تقليص عدد الأصوات التي يمكن أن يحصل عليها "الإخوان" في أي استحقاق انتخابي آخر.لكن هؤلاء لم يبذلوا جهداً كبيراً في محاولة تقصي أسباب تلك "الورطة"، في مقابل الارتياح الكبير الذي وجدوه في أن "الإخوان" لا يمتلكون "مشروعاً" يمكن تطبيقه، فضلاً عن إمكانية أن يحقق هذا المشروع النجاح.كما أنهم يتعاملون مع الأمر كما لو كان شراً مستطيراً سيضرب الجماعة، لكن آثاره لن تمتد لتطول القوى السياسية المختلفة، بل ثورة يناير، ومستقبل البلاد، وربما مستقبل المنطقة كلها أيضاً.لكن، لماذا لا يمتلك "الإخوان" مشروع نهضة حقيقياً وقابلاً للتطبيق؟لقد ظل "الإخوان" على مدى ثمانية عقود من النضال السياسي والتضحيات مشغولين بالتأسيس للدعوة في قلوب أبناء الجماعة والمستقطبين والمتعاطفين والمجال العام، ومعنيين بتحصين الجماعة وأعضائها من الملاحقات الأمنية والاستهدافات السياسية، ومنهمكين في التفاوض وعقد الصفقات والمساومات، ولم يجدوا، على ما يبدو، الكثير من الوقت للإجابة عن السؤال: "ماذا سنفعل في حال وصلنا إلى السلطة؟".اكتفى "الإخوان" طيلة العقود الثمانية الفائتة بالارتكان إلى الشعار الملهم الآخاذ: "الإسلام هو الحل"، ولا شك أن أجيالاً عديدة من الجماعة نشأت ونضجت على اقتناع بأن "تطبيق الشريعة يحل كل المشكلات"، ولا شك أيضاً أن هؤلاء موقنون بأن "وصول الورعين المتقين إلى السلطة يعني حل المشكلات واستعادة الأمجاد".إنها ورطة حقيقية... فغداً الاثنين سيُتم الرئيس مرسي المئة يوم الأولى في حكمه، وهي الفترة التي وعد خلالها بحل المشكلات في خمسة قطاعات؛ هي: الأمن، والمرور، والنظافة، والخبز، والوقود.لم يستطع مرسي أن يفي بعهده ويحل المشكلات في تلك القطاعات الحساسة، بل لم يستطع أن يقنع الجمهور بأنه قادر حتى على حل تلك المشكلات في حال أمضى وقتاً أطول في التعاطي معها.يحتشد الجمهور بانتظام أمام القصر الذي يمارس مرسي الحكم منه، بمنطقة مصر الجديدة شرق القاهرة، ويسعى بعض المحتجين والمعتصمين إلى حرق أنفسهم أو الانتحار بإلقاء أجسادهم أمام العربات المارة في الطريق يأساً من تحقيق مطالبهم. كما تتفاقم مشكلات نقص الوقود في محافظات عديدة، وتتزايد اختناقات المرور، وتغرق البلاد في أطنان من القمامة، رغم التحسن الطفيف والقابل للقياس في ملف الأمن.إنها ورطة حقيقية، لأن مرسي مثلاً اضطر لإرسال برقية شكر رداً على برقية تهنئة أرسلها له نظيره الإسرائيلي بيريز غداة انتخابه، رغم نفي الناطق الرسمي باسمه صحة البرقية التي نشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية. إنها ورطة أيضاً لأن حكومة هشام قنديل تسعى بإلحاح للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بفائدة، وصفتها بأنها "مصاريف إدارية"، لتوقف انتقادات حادة من السلفيين الذين اتهموها بممارسة "الربا". وهي ورطة كبيرة أيضاً لأن الحكومة تعاني عجزاً مالياً متفاقماً تسعى إلى سده عبر زيادة الجباية، ورفع أسعار الكهرباء والبنزين ومياه الشرب.سيجد كثيرون من أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" أنفسهم أمام أسئلة صادمة من نوع: "إذا كان الإسلام هو الحل... فلماذا لم يأت الحل، وقد جاء الإسلام؟"، و"كيف يحكم الإسلام مصر، وتقترض الحكومة من الغرب النصراني، وبفائدة ربوية؟"، و"كيف نقيم العلاقات الطيبة مع الولايات المتحدة التي تنحاز لإسرائيل؟"، و"كيف تتغاضى حكومتنا عن إهانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تتخذ المواقف الحادة الرادعة تجاه المعتدين؟"، وأخيراً، وليس آخراً، "كيف نتعامل مع إسرائيل، ونتبادل البرقيات الودية، وننسق في الأمن والاقتصاد؟".الآن سيعرف أبناء جماعة "الإخوان المسلمين" أن "الإسلام هو الحل" ليس سوى شعار ملهم عام، لا يضمن في حد ذاته إنتاج الحلول وتحقيق التقدم، وسيدركون أن وصول رئيس "يصلي بانتظام ويخطب في المساجد" لن يؤدي تلقائياً إلى "استعادة الأمجاد"... بل سيُصدمون أيضاً بعدما يرون أن كثيراً مما فعله نظام مبارك يتكرر في عهد مرسي.إنها ورطة حقيقية للجماعة وأبنائها، لكنها ورطة أكبر لمصر، لأنها ستهدر وقتاً غالياً لكي يدرك حكامها الجدد أن السياسة ليست مجرد شعارات، وحتى يمكنهم تحويل شعاراتهم "الطيبة" إلى برامج يمكن أن تُنفذ على الأرض، فضلاً عن أن تحقق النجاح.* كاتب مصري
مقالات
«الإخوان» في ورطة
07-10-2012