"... وقد عرض المستشار النائب العام الموضوع بكامله وأرجع ما تناولته وسائل الإعلام بشأن صدور قرار السيد رئيس الجمهورية بتعيينه سفيرا إلى حدوث لبس في فهم موافقته...".

Ad

ما سبق جزء من نص بيان المجلس الأعلى للقضاء حول القضية التي شغلت الرأي العام المصري في الفترة الماضية، وواضح تماما لمن يعرف ألف باء اللغة العربية أن النائب العام وافق على ترك منصبه بإرادته، سواء كانت هذه الموافقة مرتبطة بزمن ما أو بموقع محدد ينقل إليه أو لا، ولكنه وافق فـ"حدوث لبس" يعني بداهة حدوث موافقة سبقت اللبس الذي لا يكون إلا في فعل أو قول، ولا يكون في فراغ أو عدم، واعتراف النائب العام بذلك تصرف نبيل لم يكن متوقعا منه باعتباره شخصاً غير مرغوب فيه، وتعتبر إقالته مطلبا شعبيا وثوريا من أول أيام الثورة.

إذا كان هذا هو حقيقة ما حدث فأين المشكلة؟ القضية باختصار أن البعض يريد ممارسة السياسة بحصانة القضاء!! وهذا أمر غريب عجيب فإن كنتم تريدون السياسة فأهلا وسهلا بقوانين السياسة ومفرداتها، أما غير ذلك فلا يصح، فالحصانة القضائية هي للحكم بين المتنازعين والفصل في القضايا وضمان الحيدة لهذه الأحكام، وليست سيفا مصلتا على رقاب العباد، وليست أداة تمارس بها السياسة، وإن كان من حقكم أن يكون لكم رأي سياسي تؤمنون به وتدافعون عنه بقوة فمن حق غيركم أن يرفضه ويدافع عن رفضه بقوة أيضا، ولا تنسوا أن القضاة أنفسهم ليسوا مجمعين على رأي سياسي واحد، وإن كانت لكم الكلمة العليا في ساحات المحاكم فبالتأكيد هي ليست لكم في الشارع السياسي، فلا تحاولوا فرضها بالقوة أو بالحصانة المزعومة، فهذا وهم وضعف لا يليق بكم يا قضاة مصر.

إن فهم بعض القضاة لاستقلال القضاء أنه استقلال عن الدولة أو أنهم فوق الدولة هو فهم معيب، فاستقلاله قصد به الاستقلال عن السلطتين التشريعية والتنفيذية- وأيضا ليس فوقهما- فالقضاء سلطة مستقلة كغيرها والسلطات الثلاث تعمل معا من أجل استقرار الدولة وتحقيق مصالح المواطنين وآمالهم. ومن يرد ممارسة السياسة فعليه ممارستها مرتديا ثوب السياسي لا وشاح القاضي.

 وللتذكرة هل نسينا ما حدث في قضية "منظمات المجتمع المدني"، وما تم في ليلة سوداء، وفي غفلة من الزمن، وسفر المتهمين بطائرة خاصة ... إلخ؟ فهل كان هذا فعلا قضائيا (عارضه الكثيرون من القضاة) أم مخططا سياسيا؟! وهل يليق هذا بمن يدعون النزاهة والاستقلالية؟!

عودة إلى النائب العام وكما ذكرت فقد كانت إقالته مطلبا ثوريا وشعبيا من أول يوم للثورة، فقد كان شاهداً على قضايا الفساد وجرائم استغلال النفوذ في عهد مبارك، وكذلك جرائم تعذيب المعتقلين، بل كان مشاركا فيها أيضا بتقاعسه وصمته وتقديمه مبررات لحفظ القضايا.

وبعد الثورة استمر في ممارساته، بل قام بما هو أكبر، فقد تم تقديم جميع قضايا اغتيال الشهداء للمحاكمات– كما شهد بذلك القضاة أنفسهم وعلى رأسهم المستشار أحمد رفعت- ناقصة الأدلة خالية من الإثباتات والقرائن؛ مما دفع القاضي الذي يحكم بما أمامه من أوراق (وليس برأيه أو إحساسه) ببراءة جميع المتهمين لعدم ثبوت الأدلة، فكان من الطبيعي والمنطقي أن يواصل الجميع المطالبة بإقالته ومحاكمته والسخرية منه (بشار الأسد على استعداد للمحاكمة بشرط أن يقدمه لها النائب العام المصري).    

إن الخلط بين صواب قرار إقالة النائب العام وأكذوبة الاعتداء على استقلال القضاء خلط مقصود، وادعاءات البطولة الزائفة والصراخ والضجيج الإعلامي لا قيمة لها ولا فائدة منها، كما أن تطهير القضاء سواء من المجلس الأعلى للقضاء أو غيره أمر ضروري ولا يمكن الادعاء بأن جميع القضاة شرفاء ومنزهون عن الخطأ، فقد انتهى زمن الأنبياء ومن طبيعة البشر الخير والشر... الصالح والفاسد، وردهات المحاكم شاهدة على ذلك من قاضي الجنح إلى مستشاري "الدستورية".

فأفيقوا يا قضاة مصر، وطهّروا أنفسكم قبل أن ينقلب الشعب عليكم، فلستم أقوى من غيركم من ساكني زنازين "طرة"... أتمنى أن يستمع القضاة لصوت العقل ولا يغرهم زهوة المنصب ووجاهة الوشاح.