تلك البئر العتيقة
من يتأمل في واقع التواصل المعلوماتي في وقتنا الراهن تصدمه متناقضات غريبة! ففي الوقت الذي وصلت فيه وسائل التواصل قمة تطورها التكنولوجي عبر الأجهزة الحديثة ووسائل الإعلام المرئي والفضائيات، نجد أن الخطاب المتداول بين ظهرانينا - بما يحتويه من المعلومات والاقتباسات والخواطر والنصائح - لايزال يمتاح من بئر عتيقة أسن ماؤها وجمُد زمانها!
ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في هذا الخطاب المتداوَل غلبة (الحكاية) واتخاذها أساساً ومنطلقاً لتمرير ما يعنّ على الخاطر من توجهات وأفكار ووعظ وترغيب وترهيب. فأنت دائماً إزاء "حكاية" أو "قصة" أينما وجهت مسمعيك أو ناظريك، في المحاضرات والدورات التدريبية وخطب الجمعة ومنابر الوعظ والمناهج الدراسية والبرامج الجماهيرية... إلخ. وقد لا يخفى على أحدنا أن الدعاة على وجه الخصوص هم أكثر من وظف "الحكاية" و"القصص" والمرويات في برامجهم ومحاضراتهم ولقاءاتهم الجماهيرية. وبذلك فنحن إزاء ثقافة وتوجه باتا من أدوات التأثير ووسائل البرمجة العقلية غير القابلة – في معظم الأمثلة – للنقض أو الجدل. ذلك أن جلّ تلك "المرويات" و"الحكايات" المأثورة عادة ما تُنسب إلى السلف الصالح أو الأولياء أو الأئمة أو الخلفاء أو القادة والفاتحين أو السابقين في العصر والأوان. أما زمن تلك القصص والمرويات فهو كزمن أبطالها، زمن تاريخي وتراثي تحيطه هالة من القداسة والتبجيل. أي أنك إزاء حالة مؤطرة بالثبات اليقيني الأمر الذي لا يتسنى لك معها مجرد الشك في واقعية هذه المرويات، ناهيك عن إخضاعها للتمحيص ومنطق المنهجية العلمية في الدرس والتوثيق! ويبدو المشهد أكثر إرباكاً للعقل والمنطق حين تصل تلك الحكايات إلى حدود الخوارق والمعجزات في حين لا يخرج أبطالها في حقيقة الأمر عن صفة البشر الاعتياديين الذين يأكلون ويشربون ويرتادون الأسواق! تنقسم تلك الحكايات والقصص إلى فئات: منها المفبركة التي تستند إلى أبطال ومواقف من صنع الخيال، وهذا يظهر في غرابة الصدف والظروف التي تدور فيها الحكاية، أو الأقوال والأفعال التي تُفصّل على قدر الموعظة والتوجيه الأخلاقي أو السلوكي المراد من وراء حياكة تلك القصة. وهذا اللون من الحكايات يمكن بسهولة إدراك مغزاه ومرماه الذي يندرج تحت "القصص التعليمي" وغالباً ما يكون مصدره الموروث الشعبي أو الأدبي. أما النوع الثاني من الحكايات فهي التي تُروى عن شخصيات تراثية أو تاريخية حقيقية، ولكن ليس بالضرورة أن تكون حكايات صحيحة أو دقيقة، بل غالباً ما تكون منحولة أو موضوعة تم تناقلها عبر العصور دون سند أو توثيق. ورغم هذه الشكوك التي لا تخفى على كل ذي بصيرة إلا أن توظيفها في الخطاب المعاصر يتم بقدر مسرف في اليقين الأمر الذي لا يترك مجالاً للنقد أو الجدل. أما أخطر تلك "الحكايات" و"الأقوال" فهي تلك التي تقع في خانة ما يُتَعبد به، أو ما يتعلق بطقوس العبادات من صلاة ودعاء وأعمال عبادية أخرى. وهو مجال استسهل الخوض به كل من هب ودب من المجتهدين والدعاة وخطباء المنابر، بل وحتى كل من امتلك جهاز (آي فون) وخوّل نفسه إزجاء الوعظ ونشر ما يجب قوله أو فعله قبل تلك الركعة أو بعد السجود أو أثناء الوضوء، أو حين قدوم شهر شعبان أو محرّم ، أو قبل الشروع بعمل ما... إلخ. تأتي تلك الروايات والأقوال طبعاً منسوبة إلى هذا وذاك من الأئمة أو التابعين أو السلف الصالح! وأنتَ أمام هذا الكم من الاجتهاد في النقل والرواية في حيرة من أمرك، لا تدري من تصدق ومن تكذب! والأهم من ذلك تساؤلك عن مدى صحة النسبة والنقل، وهل هي موثقة أم تأتي معبّرة عن اجتهادات صاحب الآي فون وفرحته ببرنامج الـ"واتس آب"؟! أما أطرف ما يأتينا عبر "الواتس آب" أو لعله الأكثر إرباكاً للعقل هو حكايات: "رأى فلان فيما يرى النائم..."، ثم يتبع ذلك نصحك باتباع ما أوحي لهذا الفلان في المنام عبر الولي الفلاني من ضرورة قراءة آية معينة أو ترديد البسملة أو الحوقلة عدد كذا من المرات تأسياً بما ورد في حلم مَنْ كُشف له حجاب الغيب! ثم يردف ذلك بتحذيرك بالويل والثبور والغضب الإلهي وبنقص في العمر والرزق إذا لم تقم بدورك بنشر (البرود كاست) عبر جهازك على الملأ!! تلك هي حكاياتنا التي ما تنفك تسوّق التجهيل والاستسلام عبر أكثر الوسائل تطوراً وتقنية! فما أعظم التناقض وما أطرف المفارقة!