الحنين منفضة الرماد الحارقة،

Ad

ذلك الكرز المرّ...

وقفزة في الهواء بلا أجنحة،

مطرٌ نرتجيه أن يبلّل يباس قلوبنا فيعصرها بدل أن يبلّلها...

شبر ماء نغوص به حتى يكاد ينقطع فينا النَفَس،

زجاجة العطر الفارغة التي لا نتعطّر منها ولا نستطيع التخلص منها

لغمٌ مزروع تحت أرضٍ معشبة إمعاناً في إغراء خطواتنا، ولعبة للتمويه تغري طفولة قلوبنا لا نكتشف أنها قنبلة موقوتة إلا بعد أن تصبح قلوبنا أشلاءً متناثرة على قارعة الحب،

قرص وجعٍ نتناوله لنتداوى من آلامنا،

الحنين جنيّةٌ نتبعها مأخوذين بسحر صوتها فترمي بنا دون أن ندري في وادٍ لا قاع له،

إنه ليس ذاكرة منزوعة الدسم، ولكن منزوعٌ حرف الدال فقط من كلمة الدسم!

الحنين ليس إلا هروباً من جفاف الحاضر إلى سراب ماضٍ لا يروي ظمأ،

نستجير من الجفاف بالسراب!

نشعر في لحظة أننا آيلين للذبول فنفرّ مسرعين لأثر غيمة سقطت في ربيع عمرٍ مضى، ورائحة مطرٍ لم يبق من صنيعه سوى خيال غصنٍ ذاوٍ...

نفرّ إلى الحنين للحظة ماضية حين يجفّ ضرع اللحظة الحاضرة، نحلم بالحليب والعسل، ودائماً ما نعود وسقف حلوقنا أكثر جفافاً وأشد تشققاً،

لا نأخذ من الحنين سوى فضح وعري لما هو آن، وهزيمة لمحاولة ظننا أنها ذكية للتحايل على مرارة اللحظة الراهنة وخوائها،

اللحظة الراهنة التي افتقدنا فيها ما يشبع نهم الروح، ولم تبنِ سوى العراء مأوى لها، وحاصرت أضلعنا بالبرد والعتمة، ولم تقدّم لعصافير الحب سوى مائدة الهواء،

هذه اللحظة التي لم توفّر للأغاني الشريدة في صدورنا مأمناً، ولا لرعشة كفوفنا دفء جمرة، ولا لسهدنا فسحة منام، ولا لحمَامنا قطرة هديل،

تجفّف قلوبنا تحت الشمس الحارقة لتصبح حبة زبيب يفتقد المذاق،

هذه اللحظة الراهنة هي التي تجبرنا على الفرار إلى الحنين معتقدين أننا سنجد الفردوس المفقود فيه،

فحين يشعر المرء بحنينٍ لحب مضى في ظل حب قائم، ذاك يعني أن الحب القائم أقل من أن يملأ قلوبنا، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الحب الماضي أكثر قدرة على فعل ذلك!

كل ما يحدث هو أن الحب الماضي والحب الحالي يدخلان في منافسة غير عادلة، وغير متكافئة لصالح الحب الذي كان، فنحن عادة ما نجمّل ما مضى، نعيد ترميمه، ونزيل التشوهات عن ملامحه، ونضع عليه قليلاً من المساحيق، وننسى كثيراً من ألمه، وكثيراً من مرارته، ولا يبقى في لسان ذاكرتنا سوى الطعم الحلو منه، أما الحب الحاضر فنحن مازلنا نعيش كل لحظاته بكل ما فيها من سيئ وجميل، فنحن لم نتجاوز ألمه بعد، ولم يتسن لنا الوقت لنسيان رائحة جرحه بعد، وفي لحظة احتياجنا الحادّة نجد أن الحب القائم لا يحتضنّا بما يكفي فنلجأ لحافلة الحنين التي تنقلنا للحظة ماضية ابتغاء إشباعنا بما نفتقد، إلا أننا غالباً ما نعود بخفّي انكسار، لأن اللحظة الماضية ليست إلا "نفرتيتي" التي خلّدناها، فهي... بلا روح!

لن يقوى على الحنين إلا لحظة راهنة أجمل من صورة اللحظة الماضية التي ابتكرنا.