إن النظرية الأوسع انتشاراً في عالم السياسة هي أيضاً أكثر نظرياته بساطة: الأقوياء يحصلون على ما يريدون. فالتنظيمات المالية تحركها في الأساس مصالح البنوك، والسياسة الصحية تحركها مصالح شركات التأمين، والسياسة الضريبية تحددها مصالح الأغنياء. وهؤلاء الأكثر قُدرة على التأثير على الحكومة - من خلال سيطرتهم على الموارد والمعلومات أو مجرد التهديد بالعنف - هم من يصلون إلى مبتغاهم في نهاية المطاف.

Ad

ولا يختلف الأمر على الصعيد العالمي، فالسياسة الخارجية تتحدد كما يُقال وفقاً للمصالح الوطنية أولاً وقبل كل شيء - وليس الألفة مع دول أخرى أو الاهتمام بالمجتمع الدولي. ويصبح إبرام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية أمراً في حكم المستحيل ما لم تكن متفقة مع مصالح الولايات المتحدة، وعلى نحو متزايد قوى كبرى أخرى ناشئة. وفي الأنظمة الاستبدادية، تشكل السياسات التعبير المباشر عن مصالح الحكام وأعوانهم.

وهو سرد مقنع، وبه نستطيع أن نفسر بسهولة كيف تولِّد السياسة غالباً نتائج منحرفة. وسواء في ظل الأنظمة الديمقراطية أو الدكتاتورية أو على الساحة الدولية، تعكس هذه النتائج قدرة المصالح الضيقة الخاصة على تحقيق النتائج التي تضر بالأغلبية.

بيد أن هذا التفسير بعيد عن الاكتمال، وكثيراً ما يكون مضللا. فالمصالح ليست ثابتة أو محددة سلفا. فالمصالح ذاتها تتشكل وفقاً لأفكار - المعتقدات المتصلة بكينونتنا، وما نحاول تحقيقه، والآليات التي يعمل بها العالم. ودائماً ما تخضع تصوراتنا للمصلحة الذاتية للغربلة عبر عدسة الأفكار.

ولنتخيل هنا شركة ما تناضل محاولة تحسين موقفها التنافسي. تتلخص إحدى الاستراتيجيات لتحقيق هذه الغاية في الاستغناء عن بعض العاملين ونقل عملية الإنتاج إلى مواقع أرخص في آسيا. ولكن بوسع الشركة بدلاً من ذلك أن تستثمر في تدريب المهارات وبناء قوة عاملة أكثر إنتاجية وتتمتع بقدر أعظم من الولاء، وبالتالي تنخفض تكاليف دورة رأس المال. وبوسعها أن تنافس على السعر أو على الجودة.

ومجرد علمنا بأن أصحاب الشركات مهتمون بمصالحهم الذاتية لا ينبئنا في حد ذاته عن الاستراتيجية التي قد ينتهجونها بين هذه الاستراتيجيات. وفي نهاية المطاف يتحدد اختيار الشركة وفقاً لسلسلة كاملة من التقييمات الذاتية لاحتمالات حدوث السيناريوهات المختلفة، إلى جانب حسابات التكاليف والفوائد.

وعلى نحو مماثل، تصور أنك حاكم مستبد في بلد فقير، فما هي الوسيلة الأفضل للحفاظ على سلطتك وإجهاض التهديدات المحلية والخارجية؟ هل تعمل على بناء اقتصاد قوي قائم على التصدير؟ أو هل تنغلق على الداخل وتكافئ أصدقاءك العسكريين وغيرهم من المقربين، على حساب كل شخص آخر تقريباً؟ من الواضح أن الحكام المستبدين في شرق آسيا تبنوا الاستراتيجية الأولى؛ أما أقرانهم في الشرق الأوسط فقد اختاروا الثانية. فكل منهم لديه تصورات مختلفة للوجهة التي تكمن فيها مصالحه.

أو لننظر في الدور الذي تلعبه الصين في الاقتصاد العالمي. مع تحول جمهورية الصين الشعبية إلى قوى عظمى، فسيكون لزاماً على زعمائها أن يقرروا أي نوع من النظام الدولي يريدون تطبيقه. وربما يختارون البناء على تعزيز النظام القائم المتعدد الأطراف، الذي خدمهم إلى حد كبير في الماضي. ولكنهم ربما يفضلون العلاقات الثنائية الخاصة التي تسمح لهم باستخلاص ميزة أعظم من صفقاتهم مع الدول الفردية. ولا يمكننا أن نتكهن بالهيئة التي قد يتخذها الاقتصاد العالمي من مجرد ملاحظة مفادها بأن الصين ستصبح هي ومصالحها أكبر حجماً.

قد يكون بوسعنا أن نضرب أمثلة من هذا القبيل إلى ما لا نهاية. فهل تُخدَم الحظوظ السياسية المحلية للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل على أفضل نحو من خلال فرض التقشف على اليونان، على حساب جولة أخرى من إعادة هيكلة الديون في المستقبل القريب، أم من خلال تخفيف شروطها، وهو ما قد يتيح لليونان الفرصة للنمو والخروج من أزمة أعباء الديون؟ وهل تخدم الولايات المتحدة مصالحها في البنك الدولي على أفضل وجه بالترشيح المباشر لأميركي رئيساً له، أم بالتنسيق مع الدول الأخرى لاختيار المرشح الأنسب، سواء كان أميركياً أو لم يكن؟

إن مناقشتنا لمثل هذه التساؤلات بهذا القدر من الشغف تشير إلى أننا جميعاً لدينا مفاهيم متباينة للوسيلة الأنسب لتحقيق مصالحنا. ومصالحنا في واقع الأمر رهينة أفكارنا.

من أين تأتي مثل هذه الأفكار إذن؟ إن صناع السياسات، كمثلنا جميعاً، عبيد للنمط السائد. وتتشكل وجهات نظرهم فيما يتصل بتحديد ما هو ممكن ومرغوب بما يتفق مع روح العصر، "الأفكار في الفضاء المحيط". وهذا يعني أن خبراء الاقتصاد وغيرهم من قادة الفكر قادرون على ممارسة قدر أعظم من النفوذ - سواء لارتكاب شر أو جلب منفعة.

ذات يوم، قال جون ماينارد كينز: "حتى رجل الأعمال الأكثر عملية يتأثر عادة بأفكار خبير اقتصادي رحل عن عالمنا منذ فترة طويلة". وربما لم يعبر كينز بالقوة الكافية عن هذا الأمر. فالأفكار التي أنتجت، على سبيل المثال، التحرر الاقتصادي الجامح والتجاوزات المالية طيلة العقود القليلة الماضية، انبثقت عن خبراء اقتصاد ما زالوا على قيد الحياة (في الأغلب الأعم).

ففي أعقاب الأزمة المالية بات من المألوف بين خبراء الاقتصاد أن ينتقدوا قوة البنوك الضخمة. فلأن الساسة واقعون تحت سيطرة أصحاب المصالح المالية، على حد زعمهم، سمحت البيئة التنظيمية لهذه المصالح بجني مكاسب هائلة بتكاليف اجتماعية باهظة. ولكن هذه الحجة تتجاهل الدور الذي لعبه خبراء الاقتصاد أنفسهم في إضفاء الشرعية على هذا السلوك. فخبراء الاقتصاد- وأفكارهم- هم الذين أضفوا قدراً كبيراً من الاحترام على اعتقاد صناع السياسات والقائمين على التنظيم بأن ما يحقق مصلحة "وول ستريت"، فهو بكل تأكيد يحقق مصالح عامة الناس.

إن خبراء الاقتصاد يعشقون النظريات التي تعتبر المصالح الخاصة المنظمة أصل كل الشرور السياسية. ولكنهم في العالم الحقيقي لا يستطيعون التنصل من المسؤولية عن الأفكار الرديئة بنفس السهولة التي يتملصون بها عادة. فمع النفوذ لابد أن تأتي المساءلة.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "مفارقة العولمة: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»