ففي الذكرى الثمانين لرحيل أمير الشعراء أحمد شوقي (1868- 1932)؛ كتب الشاعر اللبناني أحمد فرحات: «هذا الشاعر الكبير (أحمد شوقي) الذي ملأ بالفعل الدنيا وشغل الناس، مثل نظيره أبي الطيّب المتنبّي، الذي كان يوصف عن حقّ بهذا التوصيف من قبل. لا بل إن الشاعر أحمد شوقي اعتبر نفسه قد تجاوز المتنبّي بنبوغه الشعري حينما قال عن نفسه مفاخراً وموازناً بينه وبين شاعر العرب الأكبر:
ولي درر الأخلاق في المدح والهوىوللمتنبّي درة وحصاة».من علامات أحمد شوقي أن يختار أن يكون أميراً وليس ملكاً ولا وزيراً، هل يقدم اللقب شيئاً على شعرية الشاعر؟ بالطبع لا... كذلك من الخطأ القول إن أحمد شوقي «متنبي العصر»، فرغم أن بعض الفنانين الكلاسيكيين غنى من قصائده ورغم أنه أتى في زمن كان العالم العربي في مرحلة الانتقال من التقليد إلى الحداثة، فإن الناظر إلى شعر المتنبي يجده أكثر حداثة من شعر أحمد شوقي، خصوصاً لناحية الجوهر والمعنى، وثمة عشرات الأبيات التي قالها المتنبي وعلقت في ذاكرة الناس كأنها تقال الآن. في المقابل، من النادر أن نعود إلى بيت قاله أحمد شوقي. حتى إننا إذا تأملنا حياته نجد أنها عابرة. والحال أنه حين يتم الاحتفال بأحمد شوقي ينبغي التأمل بنصه قبل كل شيء وعدم الغوص في الكليشيات التي تهمش شعره وتجعله مجرد اسم من الأسماء.ليس شوقي وحده من وضع له النقاد لقب متبني العصر، فالشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش قيل إنه «أكبر شاعر (عربي) بعد المتنبي في القرن العشرين». لا يوضع صاحب هذا القول الأستاذ رضوان السيد المعيار الذي جعله يصل إليه، وما هو الميزان الذي على أساسه نعتبر هذا أكبر وذاك أصغر! بالطبع لمحمود درويش حضور شعري في الثقافة العربية ربما لا مثيل لها في العالم، فهو من الشعراء النادرين الذين يتابعهم الكبار والصغار ولذلك مجموعة أسباب، تبدأ بالقضية الفلسطينية ولا تنتهي بشاعرية محمود درويش نفسه الذي كتب «العبارة الارستقراطية» إلى جانب الشعارات الشعبية والشعبوية والثورية.عصريكان محمود درويش يدرك قيمة المتنبي الآن، يقول في كتابه «أثر الفراشة»: «أًمشي بين أبيات هوميروس والمتنبي وشكسبير... أَمشي وأَتعثر كنادلِ مُتدرّب في حفلة ملكية»، وفي إحدى المناسبات الثقافية قال «إن المتنبي أكثر عصرية منا جميعاً حتى فتحت عليه النيران من شعراء قصيدة النثر»... لم يتجن درويش على الشعراء حين وصف المتنبي بأنه «أكثر عصرية»، كان محقاً في قوله، فهو العارف والمدرك لجوهر الشعر وهو القارئ الملم بالتفاصيل كافة، وهو الذي كتب قصيدة النثر ولم يدع أنه يكتبها، وهو أيضاً الذي اختار عبارة من ديوان الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار لتكون مفتتحاً لكتابه، في اختياره هذا فتح النقاش بشكل جديّ حول شعرية قصيدة النثر، إذ أن المشكلة ليست في جنس قصيدة النثر بل في أن العشرات من الشعراء لسبب ما، يكتبون قصيدة النثر بزعم أنها سهلة من دون أن يكون لديهم موهبة الكتابة، وأن يختار درويش عبارة لشاعر ليس من جيله لتكون مفتتحاً لديوان ففي ذلك اعتراف بسلطته الشعرية.ليس درويش من حظي بلقب «متنبي العصر»، فأحد الأصدقاء وفي لحظة غضب على «وجهاء» قصيدة النثر اعتبر أن أنسي الحاج أهم شاعر منذ المتنبي، وسرعان ما تراجع عن قوله بعد الهدوء. الأرجح أن بعض الغلاة يرى في الحاج وغيره أهم من المتنبي ويضعه في مرتبة القداسة والأقنوم والنبوة... وهذا جزء من مدرسة جعلت الشعر في دائرة التحنيط والجمود، ولم يستفد هؤلاء من بعض جوانب الحاج «التمردية اللغوية» ولم يستفيدوا حتى من مروحة ثقافته الغربية، فهم على الأرجح يقرأون ما يكتبه فحسب، ويقومون بتلخيصه، كأن همهم ترويج مقالات يمكن وصفها بأنها «أنسي الحاج للمبتدئين».كذلك لا تجوز المقارنة بين الحاج والمتنبي، فثمة اختلاف جوهري بينهما، فالشاعر محمد الماغوط قال ذات مرة جملة قاتلة، ستذهب مثلاً بليغاً عند خصوم «شعر» على اختلاف مشاربهم وتيّاراتهم: «قلْ لأحدهم ثلاث مرّات: المتنبي، يسقط مغشياً عليه. بينما قلْ له على مسافة كيلومتر: جاك بريفير، فينتصب، أو يقفز عدة أمتار عن الأرض كأنه شرب حليب السباع. لماذا؟ الجواب بسيط: لأنّ هذا غربي، وذاك عربي!».أعظم إنجاز شعريأدونيس أيضاً يقول عن نفسه من غير إعلان بأنه «متنبي العصر»، وهو أحد الشعراء العرب الأكثر انغماساً في سيرته وشعره، كتب ديواناً عنه بعنوان «الكتاب أمس، المكان الآن». وكثيرة هي المقالات التي كتبها عن المتنبي، يقول: «إنه، على الصعيد العربي، أعظم إنجاز شعري، بعد إنجاز الكوكبة الفريدة: أبو نواس، وأبو تمام، والمتنبي والمعري، وعلى الصعيد العالمي أحد أهم الإنجازات الشعرية في تاريخ الإبداع الحديث». ولا جديد في اعتراف أدونيس بعظمة شعر المتنبي، لكن الجديد أنه يقرنه بالحداثه الشعرية العربية ومن خلالها بالإبداع العالمي الحديث. وفي موضع آخر يقول أدونيس: «المتنبي يفرز نفسه ويعرضها عالماً فسيحاً من اليقين والثقة والتعالي في وجه الآخرين وضدهم». ثم يضيف: «إن شعره كتاب في عظمة الشخص الإنسانية، يسيره جدل اللانهاية والمحدودية، الطموح الذي لا يعرف غاية ينتهي عندها، والعالم الهرم الذي لا يقدر أن يتحرك ويساير هذا الطموح».يقول كثر عن أنفسهم إنهم «متبني العصر»، بدءاً بالشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري دون أن ننسى نزار قباني ولكن بلغة جرائدية، أما الشاعر اللبناني سعيد عقل فحين سئل عن المتنبي قال «شو هالبضاعة؟!».
توابل - ثقافات
من هو متنبّي هذا العصر؟
26-10-2012