حين شاهدت معرض «ديْمِن هيرست» الاستعادي في متحف «تيْت مودرن» اجتاحتني موجة مزاج عكر أطلقتها علي وعلى كثيرين الخديعة الوقحة لصيرفيي سوق ما بعد الحداثة الفنية. وبالرغم من أني تجولت سريعاً، كمن يغتسل بعد معرضه، في جناح «أحلام وشعر» في الطابق الثالث ذاته من المتحف إلا أن هيرست لم يكف عن إطلالته علي ساخراً: بقرة مشطورة طولياً، كوسج ضخم محنط داخل زجاجة، رأس بقرة يتعفن داخل غرفة زجاجية مليئة بالدود والذباب، طاولة بيضاء عليها علبة سكائر «سِلك كات» مع علبة ثقاب ومنفضة لا غير، داخل غرفة زجاجية هي الأخرى، أرفف صغيرة وطويلة صُفّت عليها مئات من حبوب وكبسولات طبية، جدار عُلقت عليه أدوات طبخ، بهو أُطلقت فيه عشرات من الفراش الملون.

Ad

هذه هي أعمال «هيرست» ذات الأثمان الخيالية. قبل دخول المعرض عليك أن تزور في طابور قاعة سوداء بالغة العتمة في الداخل، في وسطها منحوتة بالحجم الطبيعي لجمجمة بشرية مصنوعة من 8601 حبة ماس حقيقي، تتلألأ تحت إضاءة موجهة من السقف. المنحوتة معروضة بسعر خمسين مليون باوند استرليني. الجمجمة عمل «فني» تحت عنوان «من أجل حب الله»، ولقد أُطلق هذا العنوان على المعرض الاستعادي بجملته. الأعمال السابقة الأخرى متوجة بعناوين مشابهة. حين تنتهي من المعرض الواسع، الذي أنهيت التجوال فيه بعشر دقائق، تنتظرك في دكان الهدايا مصنوعات فنية بمناسبة المعرض، وعلى رأسها طبعاً جمجمة بلاستيكية محدودة النسخ بسعر 36800 باوند لا غير.

الأعمال الحيوانية المشرّحة السابقة، ومئات أخرى أكثر تنوعاً، متوافرة بصورة أكثر تأثيراً في «المتحف الطبيعي» المفتوح مجاناً للجميع، والمعزز بشروحات وافية. والجمجمة المصنوعة من الماس الطبيعي ليست أفضل، بأي شكل من الأشكال، من أخرى يمكن أن تكلف بها أي صائغ بغدادي للحلي. ولكن حيوانات وجمجمة «هيرست» هنا عبرت برزخ بورصة سوق الفن المابعد حداثي بصورة ذات ضجيج، لا تخفى فيه رنة الافتعال الإعلامي الثقافي، ولا رنة سوق المال خرساء الدوي وراء المشهد الفني. رأيت صحافيين ومصورين يقتربون من حبة الأسبرين على الرف، وعلبة السكائر على الطاولة، والذبابة التي خرجت تواً من دودة اللحم المتفسخ، ويبتعدون بضرب من الدروشة المهمومة بأبعاد اللامعنى، والتي نسميها نحن أبعاد الخديعة، وكأنهم يتأملون لمسة الفرشاة الذهبية الخشنة على جبين رامبرانت المتجعد التي رسمها لنفسه.

ما يريده «هيرست» والذين يشبهونه لا يتجاوز الشهرة والثروة. وهما يتحققان عبر الذكاء، حين ينفرد الذكاء بالموهبة، ويأخذها من خياشيمها إلى هدف لا يحيد عنهما. الموهبة حين تنضج عادة ما تمتلئ بخميرة حية من عواطف وأفكار ورؤى لم تأخذ شكلاً بعد. عمليةُ تشكُّلِ العواطف والأفكار والرؤى لا تستعين بهدف محدد مسبقاً ترغب في بلوغه. إن هدفها مفاجئ دائماً. على العكس من ذكاء الموهوب الذي يبدو ضرورياً، ولكنه ينطوي على خطورة بالغة. لأن الذكاء قرين الاحتيال، ويمكن بطرفة عين أن يقفز ليحتل مكانه. ولذلك يطمع الشاعر والفنان بلمسة من بلاهة البهلول. بلمسة من براءة «الأمير ميشيغِن» في رواية «الأبله» لدستويفسكي. بلاهة البهلول قادرة على اختراق سطح الظاهر إلى ما هو خفي. ولعل الفنان الحقيقي والشاعر الحقيقي يعرفان بالغريزة مخاطر الذكاء عليهما. فلا يتركان له فرصة الانفراد بموهبتهما.

هناك شاعر يعرف بذكاء مفرط الأوزان، ويحسن تدبير قصيدة دون وزن أيضاً. يعرف لعبة الجملة الشعرية الطليعية. يعرف كيف يلتقط الجانب الغرائبي في الكلمة والجملة. يعرف لعبة الإدهاش المطلوبة في التورية، وفي الشكل البصري...الخ. يعرف كل هذه ولكن من زاوية رياضية، لأن الذكاء رياضي في طبيعته. إنه حين ينفرد بالذكاء لا يقرب العواطف والأفكار والرؤى، حتى لو أراد. لأنه ببساطة يخلو منها تماماً. ولذلك يتوافق ذكاءُ لعبته على الورق، أو على الكانفس، مع ذكائه في سوق الشعر أو سوق الفن. الذكاء لا يقدر إلا أن يكون عملياً دائماً.

هذا الذكاء قرين الاحتيال كما قلت، ولكن ليس كل ذكي محتالاً. فالذكاء يتسع لخدمات تحيط بالعواطف والأفكار والرؤى، ولا تضيق بها. على أن كل محتال ذكي بالضرورة، واحتياله لا يأبه للعواطف والأفكار والرؤى التي لا يحسنها.