{غرفة مطلّة على الحرب} لإديث بوفييه... صورة دموية عن الحرب الهمجية (1-2)
ولد الربيع العربي في أواخر العام 2010 وتنقّل من تونس إلى مصر وغيرهما من البلدان ليبلغ أخيراً سورية. لكن نظام الأسد أبى التسليم بسهولة. فلجأ إلى العنف والقتل في مواجهته التظاهرات السلمية وهكذا جرّ بلاده إلى حرب أهلية لا تبدو نهايتها وشيكة.
على غرار كثير من المراسلين، قررت إديث بوفييه التوجه إلى سورية لتغطية الأحداث والجرائم المروعة التي أودت بحياة كثيرين في هذا البلد، إلا أنها علقت مع مجموعة من الصحافيين في حي بابا عمرو في حمص، فيما كان جيش الأسد يحاصر هذه المنطقة ويدكّها. تروي بوفييه في كتابها الصادر أخيراً بعنوان Chambre Avec Vue Sur La Guerre قصة تعرضها لإصابة في ساقها خلال انفجار قذيفة أودى أيضاً بحياة الصحافية ماري كولفين والمصور ريمي أوشليك، والمخاطر التي تعرضت لها في سعيها للهروب من حمص برفقة المصور وليام دانيالز. تنشر «الجريدة» في حلقتَين مقتطفاً من هذا الكتاب الذي يُظهر مدى بشاعة ما يعانيه الشعب السوري من جراء المعارك الدائرة بين جيش الأسد والثوار.
على غرار كثير من المراسلين، قررت إديث بوفييه التوجه إلى سورية لتغطية الأحداث والجرائم المروعة التي أودت بحياة كثيرين في هذا البلد، إلا أنها علقت مع مجموعة من الصحافيين في حي بابا عمرو في حمص، فيما كان جيش الأسد يحاصر هذه المنطقة ويدكّها. تروي بوفييه في كتابها الصادر أخيراً بعنوان Chambre Avec Vue Sur La Guerre قصة تعرضها لإصابة في ساقها خلال انفجار قذيفة أودى أيضاً بحياة الصحافية ماري كولفين والمصور ريمي أوشليك، والمخاطر التي تعرضت لها في سعيها للهروب من حمص برفقة المصور وليام دانيالز. تنشر «الجريدة» في حلقتَين مقتطفاً من هذا الكتاب الذي يُظهر مدى بشاعة ما يعانيه الشعب السوري من جراء المعارك الدائرة بين جيش الأسد والثوار.
الأربعاء 22 فبراير 2012، الساعة الثامنة وعشرون دقيقة.اهتزّ المنزل. كان بريق الثريا المتدلية فوقنا يهتزّ منبئاً بالخطر. تساقطت علينا بعض قطع الطلاء والتراب من السقف وتحطمت نوافذ المطبخ مع عصف الانفجار. كانت السماء تمطر على رؤوسنا صواريخ 122 مليمترًا أو صواريخ الكاتيوشا التي اعتاد الجيش السوري إطلاقها.
من حسن حظنا أن المركز الإعلامي الذي انتقلنا إليه أمس يقع في الطابق الأرضي من مبنى صغير مؤلف من ثلاثة طوابق. فقد أملنا أن تؤمن لنا هذه الطوابق الحماية وتخفف من وقع القذائف.مرت لحظات من الصمت تلتها قذيفة ثانية سقطت في مكان أقرب إلى مبنانا، فسارع الناشطون السوريون الذين يرافقوننا، إلى تقييم المخاطر، وعمّت المنزل معمعة كبيرة.ما هي إلا لحظات حتى سقطت القذيفة الثالثة. كان الجيش الموالي لبشار الذي يمطرنا بنيرانه، يعدّل هدفه. فراحت الانفجارات تقترب تدريجًا، لذلك كان علينا المغادرة سريعًا.حان الوقت لنوضب أمتعتنا ونحمل حقائبنا، منطلقين بعجل نحو الباب. كانت ماري كولفين وريمي أوشليك أول مَن خرج وبلغ الشارع الصغير أمام المنزل. أضعت بضع لحظات وأنا مترددةً أتساءل: هل آخذ حقيبتي معي أم أتركها؟ رغبت في الاحتفاظ بكل أغراضي معي، فربما انهار المنزل. أردت ألا يعيق أي أمر عملي، ولكن قد يكون من الأفضل ألا أحمل معي الكثير كي نتمكن من التنقل بسرعة أكبر من القذائف. ما هي إلا لحظات من التفكير!كان وليام دانيالز، رفيقي في السفر، وخافيير إسبينوزا يقفان قرب الحائط على بعد أمتار قليلة مني. خافيير صحافي إسباني يعمل مراسلا إقليمياً للصحيفة اليومية «إل موندو». أتى معنا إلى هذا المنزل ليلة أمس. لم يمرّ على تعارفنا أكثر من ساعات قليلة، إلا أنها كانت كافية لأشعر بمدى خبرته الميدانية.في الجهة الأخرى من الغرفة، كان بول كونروي واقفًا خلف البراد. يعمل هذا الرجل الطويل والنحيل بشعره الرمادي مع ماري كولفين مصوّرًا لصحيفة Sunday Times. لم يتسنَّ لنا الوقت للتعرف إلى ماري، بيد أن صيتها كمراسلة في المناطق الساخنة يسبقها، فتراها دومًا في كل مكان، حتى المناطق التي لا يستطيع أحد دخولها، تعثر ماري على سبيل ما إلى اختراقها، لا شك في أنها تتقن عملها. أما إصابة عينها الشهيرة، فلم تأتِ من عبث في أسطورتها التي تسبقها أينما ذهبت. خلت أنني أحلم ليلة أمس حين رأيتها مقبلةً علينا ومعطفها الأسود الكبير من ماركة برادا يحيط بكتفيها، فلم يكن فيها ما يشبه المحارب بزي القتال. فجأةً، تعرّفت إلى طيفها الذي يتميز بأناقة مطلقة وسط غرفة الجلوس المليئة بدخان السجائر البارد ورائحة العرق المتصبب، فاستدرت نحو ريمي، لم يكن من داعٍ للكلام. لا شك في أن المرأة التي دخلت الغرفة لتوها ماري كولفين. أتت وبول إلى هذا المبنى منذ بضعة أيام، وعندما عاد جان بيار بيرين، أبرز مراسلي صحيفة Liberation، إلى لبنان، كان من المفترض أن ترافقه، بيد أن وصول صحافيين جدد لامس عزة نفسها، لذلك قررت أن تكون آخر مَن يغادر أرض المعركة، مهما كان الثمن.دوّى انفجار جديد صمّ أذاننا، فتطايرت مربعات الزجاج المتبقية في نوافذ المطبخ. راحت طبلتا أذنيّ تطنان، فقد سقطت القذيفة في مكان قريب جدًّا. تجمّد الجميع في أماكنهم. راحت الجدران تهتز من جديد، فتقوقعت تلقائياً.دفعنا علي عثمان وصالح س.، ناشطان سوريان، إلى العودة نحو غرفة الجلوس والاختباء. كنا نتوجه نحو الباب للخروج من هذا الجحيم، لكننا أُرغمنا على أن نعود أدراجنا، وقد تملكنا الذعر.كيف نختبئ في غرفة الجلوس البائسة الفارغة هذه؟ كيف نحتمي ونحن نجهل من أين يأتي الخطر؟ اتكأ بول على جدار قرب كومة من الملاءات، في حين قبع وليام في زاوية على بعد أمتار قليلة مني. رحت أفكّر: هل أبقى في غرفة الجلوس مع الآخرين أم أهرب إلى الحمام المجاور لها؟ بدت لي تلك الغرفة الصغيرة الخالية من النوافذ ملجأ ملائمًا. هل أخرج؟ أدخل؟ أنام؟ لا أعرف ما العمل.ترددت، تسمرت في مكاني، تجمدت وسط الغرفة قبالة باب المدخل. فيما كانت ماري وريمي يرتقيان السلام ليعودا إلى الشقة، دوّى انفجار آخر.ما هي إلا أجزاء من الثانية حتى راح المنزل بأكمله يتأرجح. لقد أصيب.شعرت بوخز في عينيّ وأنا افتحهما. سدَّتْ أنفي رائحة كثيفة وبشعة اجتاحت الشقة بأكملها. عجزت عن الرؤية. كنت ممدة على ظهري على ما خُيّل إلي أنه طاولة منخفضة. شعرت بألم رهيب ينقضّ على ساقي اليسرى. حاولت النهوض، فاشتدّ الألم. لمست جنبي، فابتلت يدي بسائل لزج. تمكنت من رفع رأسي، ومن ثم جلست ببطء. راحت وركي تنتفخ فيما كنت أنظر إليها وازداد حجمها ثلاثة أضعاف. لاحظت أن الدم يسيل من سروالي، لم أستطع تحديد مصدره. وكان رد فعلي الأول، بعدما اعتصر الخوف قلبي، أن أحاول تحريك قدمي. أردت التحقق من أنني لم أخسر أحد أطرافي، رغم الألم الذي اجتاح جسمي.لم أستطع رؤية أحد وسط الغبار المتصاعد، وحين سمعت ضجيجًا خافتًا علمت أني لست بمفردي. حاولت النهوض، لكن الألم في ساقي اليسرى كان مبرحًا وعجزت عن الضغط عليها. أين وليام؟ ناديته بيأس لأعرف ما حلّ به ولينجدني. أين هو؟ ما أصابه؟ هل يستطيع مساعدتي؟قبل لحظة كان يقف على بعد أمتار مني، إلا أني ما عدت أراه. ناديته بأعلى صوتي فأجابني، لم يكن بعيدًا، تتبّع صدى صوتي ليصل إلي، لم يبدُ لي مصابًا، راح يكلمني، يطمئنني، ويقيّم حالتي.تبددت سحب الغبار تدريجًا. كان الخراب يعمّ غرفة الجلوس، فقد تحوّلت الثريا إلى آلاف القطع الزجاجية. أما الملاءات الحمراء فتطايرت وتمزقت، فاقتُلعت أجزاء من غطائها وبانت حشوتها. خُيّل إلي أن الغرفة اتشحت بقطعة من القماش الرمادي وتدرّجاته الداكنة. لم يعد بإمكاني تمييز أي من تفاصيلها، لأنها تفككت وتحوّلت إلى كتلة مدمَّرة.أحاطني وليام بذراعه وسحبني نحو الأعلى، محاولا حملي على الوقوف، وبمساعدته وصلنا إلى باب الرواق، فرأينا ماري وريمي ممدَّدَين أمامنا على السلالم. استندت إلى الجدار وقد كبّل الصمت فمي، أما وليام فهرع إليهما.كانا يواجهان الأرض، ولم أرَ من ريمي إلا جانب وجهه الجميل. كانت عيناه مغمضتَين، فبدا كأنه فاقد الوعي. راح وليام يكلّمه، يربّت على وجهه محاولا إيقاظه أو الحصول منه على أي رد فعل. أما ماري، فلم أرَ إلا شعرها الأشقر، فخُيّل إلي أن جسديهما تحوّلا إلى تمثالين. لم تتحرك جفونهما، بل ظلت أعينهما مطبقة بيأس. لم ألحظ أي نفس يخرج من فاهيهما. فقدا كل حركة، تصلبا. هذا مستحيل. لا بد من أنهما سيستيقظان بعد ثوانٍ أو دقائق.رفضت الاعتراف بالواقع، إلا أنني في قرارة نفسي أدركت أنهما ما عادا بيننا. تمسكت بأمانيّ ورغبت في مساعدة وليام، إلا أنني لم أستطع، لكني عرفت من اللحظة الأولى أنهما توفيا. مات صديقنا، وكذلك تلك المراسلة الأسطورة التي خلناها لا تُقهر. كانا ملقيين أمامي على بعد بضعة أمتار.جاء أحد الناشطين السوريين للبحث عنا، وقال لنا إننا لا نستطيع البقاء هناك وإن الأوان قد فات وما عاد بإمكاننا مساعدتهما، وستأتي سيارة تابعة للجيش الحر قريبًا لتقلنا، لكن علينا في هذه الأثناء أن ننتظر في الداخل ونختبئ في الحمام. ترك وليام مرغمًا ريمي وماري، اللذين فارقا الحياة، وعاد إلي. لم ننبث ببنت شفة، كانت نظراتنا كافية. بدا الألم واضحًا في أعماق أعيننا، إلا أنه لم يكن قد تحرر بعد. أحاطني وليام بذراعه وقادني إلى تلك الغرفة الصغيرة، ملجأنا الآمن. كان الحمام عبارة عن غرفة مساحتها خمسة أمتار مربعة لا نافذة فيها، مغطاة من الأرضية حتى السقف بمربعات صغيرة زرقاء زاهية. خلا الحمام من الغبار وبدت الأرضية شبه نظيفة. راح البلاط الأزرق يلمع في العتمة، وعند المدخل تبعثر ما تبقى من زجاج إحدى اللمبات. كان الجميع قد سبقونا إلى ذلك الحمام الصغير ليحتموا فيه. ظللنا واقفين جنبًا إلى جنب، ملتصقين بالجدار ومحاولين الابتعاد عن المدخل قدر الإمكان. رحنا ننتظر، ولكن ماذا ننتظر؟ النجدة؟ انفجارًا آخر؟توقف القصف، كما لو أنهم نالوا مبتغاهم. لكن لكم من الوقت؟ لا أحد يعلم. راح الناشطون السوريون يتحادثون همسًا. مرت الدقائق وعاد إلي ألم ساقي. كان لوجعي هذا وجه إيجابي، إذ أنساني ولو للحظات ريمي وماري وجثتيهما الهامدتين. رأيت بول، ولكن أين خافيير؟ لم أره منذ الانفجار. لم أتجرأ على سؤال وليام. فما عاد بإمكاننا تحمّل خسارة أحد منا.بدت لي تلك الدقائق ساعات. كنت أتألم وكانت الدماء قد ملأت جوربَي. عندما وصلنا ليلة أمس، خلعنا أحذيتنا وتركناها أمام الباب. كنت أنتعل حذائي الرياضي الأول كمراسلة، حذاء أسود عليه خطوط صفراء طليتها بالأسود كي لا ألفت الأنظار. عشقت هذا الحذاء، مع أن وليام اضطر إلى قطع جزء من نعله لأنني اشتريته أصغر من قدمَيّ الكبيرتين.فضلا عن الألم، كان الخوف يتملكني. كنت أتمسك بوليام كي أظل واقفةً وأبقى حيةً. لم أجرؤ على إفلاته مخافة أن أنهار جسديًّا ومعنويًّا نتيجة ذلك الذعر، ذلك الخوف الذي يعتصر الأحشاء، يوقف القلب، وينخر العقل. ما السبيل إلى النجاة من هذا الجحيم، مما عشته لتوي، مما رأيته؟ ما السبيل إلى الخلاص من هذا الحمام؟سيأتي الجيش الحر للبحث عنا، لإخراجنا من هنا، ولكن إلى أين؟ ولماذا؟ لم أجرؤ على طرح سؤال واحد مخافة أن أسمع الجواب أو مخافة أن أكتشف ألا أحد يملك الجواب.صببت اهتمامي على كل ما تبقى أمامي: وليام ونفس الحياة الذي يخرج من صدره، على تنفسه ونبض قلبه. أخذت أتنفس مع كل نفس يأخذه لأحرر الهواء من صدري مع انخفاض صدره. ثم أعيد الكرّة مرة، مرتين، عشر مرات، إلى حين لم أعد أفكّر في ذلك. شهيق، زفير، تنفس.بعد بضع دقائق، ما عاد بإمكاني الاحتمال، فقررت الجلوس أرضًا مع أنني خشيت ألا أتمكن من النهوض بسرعة عندما يحين وقت المغادرة، لكن هذا العمل البسيط تحوّل إلى مهمة شاقة. دفعت قدمي الدامية أمامي برفق على البلاط الأزرق، ثم طويت ساقي الأخرى تدريجًا وتمسكت بوليام كي لا أفقد توازني إلى أن جلست في بركة من دمي.ما إن قعدت أرضًا وشعرت ببعض الراحة حتى سمعت صوت بوق سيارة خارج المنزل، إنها إشارة الرحيل. أمسكني وليام بذراعي وساعدني مرة أخرى على النهوض. لم أتفوه بكلمة لكن أسناني صرّت. لا شك في أن وليام شعر بذلك المزيج من القلق والألم الذي رشح من مسام جسمي، ولا بد من أنه أحس بأني أشعر بالطمأنينة هنا في هذا الملجأ، وأنني لا أريد الخروج من هذا الهدوء الأزرق المربع، من هذا المخبأ الذي يحميني من العالم، من الحياة، ومن الحرب والموت.راح يردد في أذني بصوت خافت، كما لو أنني كنت أكلم نفسي: «تماسكي! سنخرج من هنا. تماسكي، كوني قوية! أعدك بأني سأخرجك من هنا».عندما بلغنا غرفة الجلوس، حلّ صالح محلّ وليام. يجيد صالح الإنكليزية، وكان يحمل باليد الأخرى حقيبة سوداء صغيرة من جلد يوازي حجمها حجم كمبيوتر محمول. أمسكني من كتفي وساعدني وأنا أعرج على التقدّم بصعوبة نحو الباب.وجدت نفسي مرة أخرى في المكان ذاته. فها أنا أقف من جديد أمام جثتَي ريمي وماري! كي أتمكن من الخروج عليّ تخطيهما، إلا أني لا أستطيع القيام بخطوات واسعة لأتفاداهما. أدركت فجأة أن علي الدوس عليهما، فرفضت، إلا أن صالح قادني بحزم إلى الخارج. وفي جدال داخلي عقيم، رحت أتساءل: على أي جزء منهما قد يكون من الأفضل أن أسير؟ سؤال من المستحيل الإجابة عنه، ومن المستحيل المضي قدمًا.دفعني صالح، فلا وقت لنضيعه. صببت اهتمامي على ذلك الضوء الأبيض المتوهّج الذي ينادينا وينفّرنا في آن. بدا التناقض واضحًا بينه وبين غرفة الجلوس القاتمة. بعد الانفجار، اعتادت عيناي العتمة، ولم أعد أميّز أي أمر خارج الباب. أعمى النور عينيّ وأفقدني كل قدراتي على التمييز. كان الصمت مطبقًا في الشارع الذي خلا من مظاهر الحياة، إلا من هدير سيارة غامض يكاد لا يُسمع.علي الخروج، إلا أنني لا أريد. أريد الخروج، غير أنني لا أستطيع. بدا لي كل ما في الخارج خطرًا: الهواء مليء بالرمل، السماء تنذر بالسوء، والأرض تهتز مع كل خطوة. لكني سرعان ما وجدت نفسي في الشارع من دون أن أدري.في الخارج، أعمى النور عينيّ للحظات. ظننت أنني لن أرى الشمس مجددًا. سمّرت نظراتي في الأرض، ثم تفحصت الرصيف بسرعة إلى أن رأيت حفرة هائلة فيه، حفرة خلّفتها القذيفة التي أودت بحياة ماري وريمي. ففضلا عن جسدَيهما الهامدين، أكّد لي هذا الجرح الكبير في الإسفلت بشكل القاطع أن ما لم يخطر ببالنا بات واقعًا.إذًا، كانت هذه الحفرة البائسة ما شغلنا خلال الدقائق الطويلة الأخيرة، كانت هي سبب الصراخ الذي تعالى والدماء التي أُريقت.تنبهت بعد لحظات أن صالح يكلّمني، كانت السيارة على بعد أمتار قليلة وسمعت السائق يُطلق البوق. نفض العالم عنه الصقيع، خرجتُ من الضباب الذي أحاطني. لم يفهم صالح لمَ جمدت في مكاني وراحت عيناي تحدقان بحفرة الانفجار تلك. ازداد توتر السائق الجالس وراء المقود لأنه أطال البقاء مكشوفًا، ما يجعله هدفًا سهلا.خلف السائق جلس بول بدون حراك، وقد علت ثغره ابتسامة مزيفة وارتسمت على وجهه علامة الهدوء المطلق. أرغمني صالح على الدوران حول السيارة الطويلة التي تكاد لا ترى لونها تحت طبقة الغبار. فتح باب المقعد قرب السائق وحثني على الدخول، إلا أنه تحلى بالصبر، إذ أدرك أنني لا أستطيع الجلوس بسرعة كما لو أن شيئًا لم يكن. كانت ساقي مضرجة بالدماء، منتفخة، مشلولة، يمزقها ألم مبرح،وأمام وجهي الذي علته علامات الحيرة والضياع، فكّر صالح في أن من الحكمة أن يدعني أدخل السيارة بروية حتى لو تطلب ذلك وقتًا أكثر مما نملك. صرَّت أسناني وبدأت معاناتي. أدخلت قدمي ثم أحد ردفيّ. تمسكت بالباب كي لا أضغط على وركي، ومع كل حركة كان صراخي يعلو.كان بول جالسًا خلفي، لم أستطع الالتفات إلى الوراء، إلا أني شعرت بيده على كتفي، لكني لم ألمح سائر الناشطين السوريين الذين كانوا برفقتنا ولا خافيير ولا وليام. لا بد من أن هذا الأخير كان يتبعنا، لكني لم أرَ خافيير بعد الانفجار. أتراه هو أيضًا ممدداً أرضًا في حالة من الجمود؟نفد صبر السائق. راح يتكلم مع صالح، وقد بدا لي أنه يريد الانطلاق، لكن لا يمكننا الرحيل بدون الآخرين، بدون وليام، إلا أن السائق لم يوافقني الرأي، على ما يبدو، لأنه عبث بناقل السرعة، معدًّا السيارة للانطلاق. كنت أعي أن الناشطين السوريين لن يتركونا في هذا المأزق، إلا أنهم يدركون أن جيش بشار ينتظر أحيانًا عمليات الإنقاذ ليعاود القصف ليقضي على مَن يقدّمون العون للجرحى، مدنيين كانوا أو محاربين، بدون تمييز. كانت كل ثانية تمرّ بالغة الأهمية، بيد أنني لا أستطيع الرحيل من دون وليام. ناديته بصوت عالٍ، لكن لا جدوى من الصراخ في هذه الفوضى التي تحيط بنا. رحت أحدّق في مدخل المبنى الذي سكناه. أومأ صالح للسائق، علينا المغادرة في الحال. فيما كان صالح يضرب سطح السيارة في إشارة منه على ضرورة الرحيل في الحال، رأيت وليام يخرج من المنزل وحقيبته على ظهره. فقد جمع في بضع لحظات بعض أغراض ريمي، آخر ما تبقى لنا منه، وركض مندفعًا داخل السيارة التي انطلق سائقها بلمح البصر.