ما قل ودل: القانون ليس فيه زينب ولكن الدستور فيه تهاني
"القانون ليس فيه زينب" عبارة قالها الفنان القدير الراحل فؤاد المهندس في إحدى مسرحياته في الستينيات، ولكن تبين لي من مطالعة مشروع الدستور الذي وضعته الجمعية التأسيسية في مصر في ليلة الجمعة 30 نوفمبر أن الدستور الذي وضعته فيه "تهاني"، وهي حكاية أرويها في ما يلي:
انحراف السلطة التنفيذيةيعتبر ركن الغاية أو الغرض أو الباعث هو أخد أركان القرار الإداري، فهو النتيجة النهائية التي يسعى رجل الإدارة إلى تحقيقها، ويخ تلف ركن الغاية عن ركن السبب، فقد يتحقق هذا الركن بقيام الحالة الواقعية أو القانونية التي تسوغ تدخل رجل الإدارة بسلطته الملزمة. فيفكر رجل الإدارة ويقدر في ضوء ما لديه من اعتبارات، النتائج التي يمكن أن تنجم عن تدخله، فإذا هدأ واستبان له الغرض الذي يجب عليه تحقيقه، فإن كان لديه خيارات متعددة، فإن عليه أن يختار أنسب هذه الخيارات، ويتخذ قراره بما يحقق المصلحة العامة، وفقا لتقديره، ولأن المصلحة العامة واسعة وفضفاضة، فإن المشرع يفرض على رجل الإدارة هدفا مخصصا يحقق المصلحة العامة وفقا لقاعدة تخصيص الأهداف.فإذا تنكب رجل الإدارة الغاية من القرار أو الهدف المخصص له ليتخذ قراره، وأصدر قراره لتحقيق أغراض ذاتية، سواء بتحقيق نفع شخصي له أو لغيره أو بقصد الانتقام، فإن العيب الذي يشوب القرار في هذه الحالة يسمى الانحراف بالسلطة.انحراف السلطة التشريعية إلا أن الفقيه الكبير الأستاذ الدكتور عبدالرزاق السنهوري لم يقصر الانحراف بالسلطة على رجل الإدارة، بل عرض لانحراف السلطة التشريعية فاعتبره سبباً لبطلان التشريع، وهو الانحراف في استعمال السلطة التشريعية، فالتشريع الذي يصدر مستوفياً أركان الاختصاص والسبب والشكل والمحل يجب– شأنه في ذلك شأن القرار الإداري- أن يتوافر فيه ركن الغاية أيضا، وإلا كان مخالفاً للدستور لاتسامه بعيب الانحراف في استعمال السلطة.ويرى أنه يتعين في الدائرة التشريعية أن يكون هذا المعيار موضوعياً محضاً لا يدخله أي عنصر ذاتي لأن الواجب هو أن نفترض في الهيئة التشريعية أنها لا تصدر في تشريعاتها إلا عن المصلحة العامة، لا سيما أنها هيئة مشكلة من عدد كبير من الأعضاء يصعب تواطؤهم على الباطل، وهي هيئة تنوب عن الأمة فيفترض فيها التنكب عن الأغراض الذاتية.انحراف واضعي الدستورولكن ما لم يكن متوقعا أبدا أن تنحرف الجمعية التأسيسية في مصر وهي تضع دستور الثورة ليتمخض انحرافها عدوانا على السلطة القضائية، وبوجه خاص على المحكمة الدستورية العليا في مصر، فتورد في مشروع الدستور، الذي سيتم الاستفتاء عليه في الخامس عشر من ديسمبر المادة 176 التي تنص على أن "تشكل المحكمة الدستورية العليا من رئيس وعشرة أعضاء". وبادئ ذي بدء فإن تحديد قضاة أي محكمة، ليس مجاله الدستور، وقد يرد حكما في قانون، فإذا زادت أعباء المحكمة وأصبحت غير قادرة على الوفاء برسالتها السامية، يجري تعديل القانون لزيادة عدد أعضاء المحكمة، تجنبا لبطء التقاضي، فالعدالة البطيئة كالظلم سواء بسواء. والواقع أن تحديد هذا العدد في نص الدستور لا يحتاج إلى كبير عناء لفهم المقاصد منه، فقد انحرفت الجمعية التأسيسية في مصر عند وضع هذا النص، عن أهداف الدستور ومراميه لتحقق أمرين:أولهما: عزل المستشارة تهاني الجبالي وسبعة مستشارين آخرين من المحكمة، وهي ثالث محكمة دستورية على مستوى المحاكم الدستورية في العالم، وهو يتناقض ونصا آخر ورد في مشروع الدستور، هو نص المادة (170) الذي يقرر أن القضاة غير قابلين للعزل، وهكذا وقع مشروع الدستور في تناقض وتهاتر.ثانيهما: أن يتاح للفصيل الذي ينتمي إليه رئيس الدولة، وهو جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي، الحلول محل أعضاء المحكمة الدستورية الذين سوف يتقاعدون تباعا، ليعين رئيس الجمهورية من يخلفهم من التيار الإسلامي، فلا تقضي المحكمة الدستورية بعدم دستورية أي قانون من القوانين التي يسعى هذا التيار إلى إقرارها. وهو نص بادئ الغرابة أو الشذوذ لو ورد في قانون تصدره السلطة التشريعية، يكون مشوبا بالانحراف بالسلطة.أما أن تنحرف جمعية تأسيسية بالدستور إلى الانتقام من السلطة القضائية، بوجه عام، والمحكمة الدستورية العليا بوجه خاص وهي تضع دستورا لمستقبل مصر والأجيال القادمة، وهو شأنه شأن غيره من الدساتير يتمتع بالثبات والاستقرار، فهو دستور جامد، لا يعدل إلا بإجراءات مطولة وبأغلبية خاصة في البرلمان، ثم يجري عليه استفتاء شعبي، فإن العوار الدستوري في النص يكون مضاعف الأثقال.وهو ليس النص الوحيد الذي انحرفت به الجمعية التأسيسية عن الغاية من وضع دستور للبلاد يلبي متطلبات الثورة، فهناك الكثير من هذه النصوص، ولعل أهمها وأخصها هو الآليات التي وضعت في الدستور، ليستأثر رئيس الدولة بكل السلطات في يده، ولسيطرة الفصيل الذي ينتمي إليه الرئيس على كل مقدرات الدولة ومؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية.