نعم... ماذا لو أدين د. طه حسين بالكفر والردة عن الإسلام، في عام 1927، وقضي بإعدامه؟

Ad

أكان يمكن أن نرتوي من نهر الفكر والأدب الذي شقه عميد الأدب العربي في صحراء جدباء من الفكر والتعصب والجهل والتخلف؟

سؤال يزاحم أنفاسي، ينتزع النوم من جفوني، يطاردني في صحوي ومنامي، يلح عليّ إلحاحاً متواصلاً، مذ أن أقر أخيراً القانون الذي يعاقب بالإعدام كل من يسيء إلى الذات الإلهية والأنبياء والرسل وأزواج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

كان الدكتور طه حسين متهماً بهذه الإساءة

في بلاغ قدمه أحد طلبة الجامع الأزهر بتاريخ 30/ 5/ 1926 إلى النائب العام يتهمه فيه بأنه طعن في القرآن الكريم، عندما أطلق على قصص القرآن أنها أساطير، في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وقد استمرت النيابة العامة في التحقيق بهذا البلاغ حتى قررت بتاريخ 30/ 3/ 1927 حفظ الدعوى الجنائية، لعدم توافر القصد الجنائي لدى د. طه حسين.

زمن أصبح التكفير فيه هو الأصل

استعدت هذا البلاغ والتحقيقات التي أجرتها النيابة العامة، وتخيلت لو أنها تمت وكان مثل هذا القانون مطبقاً في هذه الفترة من تاريخها، وأقامت النيابة العامة الدعوى الجنائية ضد د. طه حسين لإدانته في هذا البلاغ، وقضت محكمة جنايات مصر بإعدامه، في مناخ مماثل للمناخ الذي نعيشه في هذا الزمن الرديء الذي أصبح فيه التكفير هو الأصل في من يبحث ويجتهد في فهم وتفسير القرآن الكريم وآياته البينات.

لغة الحوار الرفيعة في تحقيقات النيابة العامة

ولكن كانت هناك لغة الحوار الرفيعة للنيابة العامة في التحقيقات التي أجرتها في أيام الزمن الجميل، والتي تناولت فيها التحقيق في آراء د. طه حسين وأفكاره، الذي قرر في كتابه "في الشعر الجاهلي" سنة 1926 أن ورود اسم إبراهيم وإسماعيل في التوراة وفي القرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، وفي اعتباره بناء إبراهيم للكعبة أسطورة من الأساطير... إلخ ما تورط فيه سيادته من آراء وأفكار لم يكن يقتضيها حتى بحثه في الشعر الجاهلي.

ولكن الحوار الرفيع الذي أداره المستشار محمد نور بمنطق علمي هادئ وبأسلوب رصين وببلاغة يحسد عليها، من كان الأدب والشعر ليس صنعته ومن كان التفسير الديني ليس مهنته، وقت أن كان المستشار في متوسط عمره يعمل رئيساً لنيابة مصر، ويحقق مع مَن كان كل ذلك مهنته وصنعته وهو د. طه حسين.

التحقيق أثبت خطأ الدكتور طه حسين

إن هذا الحوار الرفيع، الذي أثبت خطأ د. طه حسين في ما تورط فيه من أفكار، دون أن يدينه بالكفر أو بالردة عن الإسلام، قد أثمر في ما بعد كتابه "على هامش السيرة" الذي كان إحياءً للسيرة النبوية بأسلوبه الأدبي الرفيع، والذي صور هذه السيرة الكريمة حية نابضة، تصور الأحداث والرجال في حركة، مع رشاقة في التصوير وبلاغة في التعبير، حتى يخيل إليك أنك تعيش هذه الأحداث وتتفاعل معها.

دعوة الدكتور طه حسين إلى تحرير العقل

وقد قال عنه د. إبراهيم بيومي مدكور إن نهجه في كتابه "في الشعر الجاهلي" وفي غيره هو عدم التسليم المطلق بالثوابت، والدعوة إلى البحث، والتحري، بل إلى الشك والمعارضة، وأدخل المنهج النقدي في ميادين لم يكن مسلَّماً من قبل أن يطبق فيها. أدخل في الكتابة والتعبير لوناً عذباً من الأداء الفني حاكاه فيه كثير من الكُتاب، وأضحى عميد الأدب العربي بغير منازع في العالم العربي جميعه.

كتابه «مرآة الإسلام»

ولقرار النيابة العامة سالف الذكر فضل لا ينكر في ظهور كتاب د. طه حسين "مرآة الإسلام"، الذي أثرى بدوره المكتبة الإسلامية بما قدمه من نواح في حياة رسول الله، لم يكن يمر عليها المؤلفون إلا في إشارات سريعة.

وأصبح الذي كان الاتهام مسلطاً عليه أمام النيابة العامة في عامي 26 و1927 بإهانة الدين الإسلامي والطعن على النبي صلى الله عليه وسلم، هو القائل في "مرآة الإسلام": "لقد تجرد النبي صلى الله عليه وسلم لأداء ما كلف به من مهمة، وما حمل من أمانة، فأخذ نفسه بأشد ما يأخذ الرجل به نفسه من الجهد والمشقة في ذات الله، وأنفذ أمر الله في نفسه في ما اختصه به من التكاليف، كما أنفذ أمر الله في كل ما كلف أن يأمر الناس به"، ثم يقول "ثم تألبوا عليه وجعلوا يؤذونه في نفسه وفي من تبعه من الناس بأيديهم وألسنتهم، ثم أصبحت الحياة بينه وبين قومه جهاداً متصلاً عنيفاً أشد العنف وأقواه، ولكنه صبر لهذا الجهاد كما أُمر أن يصبر، واحتمل فيه من ألوان المشقة ما ينوء بالرجال أولي العزم كما أُمر أن يتحمل، وجعل يصبر أصحابه ويهون عليهم ما كانوا يلقون، وما أكثر ما كانوا يلقون من ضروب الفتنة والعذاب". ومن مؤلفاته التي أثرت المكتبة الإسلامية كذلك "على هامش السيرة" (3 أجزاء) و"الوعد الحق" و"الشيخان"، و"الفتنة الكبرى... عثمان وعلي وبنوه" (جزآن).

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.