لكي نفهم أزمة اليورو، فمن الواضح أننا نحتاج أولاً إلى الإلمام بالاقتصاد، ولكننا نحتاج أيضاً إلى التعرف على التوجهات الثقافية العميقة للمجتمعات الأوروبية.
وما دمنا الآن في أوج موسم العطلات الصيفية فمن المفيد أن ننظر إلى أنشطة وقت الفراغ الترفيهية في أوروبا. عندما يلعب الأوروبيون ويسترخون فإنهم ينتجون نسخة مطابقة من صراعاتهم المالية والاقتصادية. والمسألة الأساسية هنا ليست ماذا يفعلون بالتحديد. بل ان التعرف على الكيفية التي يزاولون بها أنشطتهم -وقبل كل شيء من يقوم بهذه الأنشطة- من شأنه أن يساعدنا في الكشف عن الطبيعة العميقة للصعوبات التي تواجه أوروبا.في يونيو، قَدَّمَت بطولة كأس الأمم الأوروبية لكرة القدم لعام 2012 نفسها بوصفها قياساً على الاضطرابات المحيطة بالعملة الأوروبية الموحدة. فقد أطلِق على الفرق المهزومة وصف الفرق التي "فارقت اليورو". وكان اليونانيون فخورين باجتياز بلادهم لجولة التصفيات والوصول إلى الدور ربع النهائي. وجاءت مباراة الدور قبل النهائي بين إيطاليا وألمانيا لتبشر بالاستعداد الواضح من جانب المستشارة أنجيلا ميركل للإذعان للمطالب الإيطالية بدعم سوق السندات الحكومية. وسرعان ما أطلِق على رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي لقب "ماريو الخارق"، ونشرت له الصحافة صورة مركبة تظهره بقصة شعر الموهوك الغريبة التي تميز ماريو بالوتيلي، اللاعب الذي سجل الهدفين الإيطاليين.ولا تقتصر القياسات على اليورو على أرض الملعب فحسب. ففي مهرجانها السنوي هذا العام، عَرَضَت دار أوبرا ولاية بافاريا في ميونيخ نسخة جديدة من العمل الأوبرالي الرهيب "شفق الآلهة"، وهو العمل الأخير في رباعية ريتشارد فاجنر الأوبرالية "حلقات نيبيلونجن". تمسكت الشخصيات المنكوبة بحصان هزاز في هيئة رمز ذهبي ضخم لليورو. وكانت الخلفية عبارة عن واجهة زجاجية حديثة تناوبت عليها صور لمقر البنك (مع كلمة "الربح" في أضواء ساطعة) ومعبد لأزياء المستهلكين. وكان الحدث الصاخب في نهاية الأوبرا هو الانهيار المالي ودحر المصرفيين الفاسدين.في هذه النسخة التي قدمها أندرياس كراينبرج من الأوبرا، يقدم اليورو باعتباره النظير المقابل لاستخدام فاجنر للحلقة كرمز للقوة، الأمر الذي يعكس سعياً أوروبياً واسع النطاق وراء نظرية المؤامرة حول ما يُرتَكَب من أخطاء. لقد أصبحت الحلقة واليورو بمثابة المركز للمحاولات التي يبذلها رجال الأعمال في راينلاند لفرض سيادتهم على أوروبا.والأمر برمته عبارة عن نوع من المحاكاة الموسيقية الساخرة للرؤية التي قدمها مارتن وولف، وجورج سوروس، وغيرهما لأزمة اليورو: وهي أن أوروبا والعالم محكوم عليهما بالهلاك بسبب السعي الحثيث من جانب ألمانيا لتحقيق فوائض في التصدير. والطريقة التي يقدم بها النقاد المعاصرون الرواية في الصحافة المالية تفترض أن السعي إلى السلطة لا يجدي في النهاية. وعلى المسرح، ينتهي الأمر برمته على الطريقة الألمانية -في جو من الرعب والدمار.الواقع أن هذا التفسير ليس جديدا. فحتى في القرن التاسع عشر، قَدَّم الكاتب والناقد الاشتراكي جورج برنارد شو تفسيراً مقنعاً يشرح فيه أن حلقة فاجنر كانت في واقع الأمر مجرد خزعبلات حول صعود وسقوط الرأسمالية. حتى أن فاجنر ذاته كتب رسائل إلى الملك البافاري المجنون لودفيج عن فساد المال (رغم أن مكافآت وأتعاب المصرفيين في ذلك الوقت من غير الممكن أن تقارن بالهبات التي تلقاها فاجنر من الملك). ولعل فكرة الدمار المأساوي النهائي طرأت على ذهنه بينما كان يقاتل في ثورة 1848-1849 في درسدن جنباً إلى جنب مع الزعيم الفوضوي الروسي ميخائيل باكونين. إن هذه الأوبرا ليست مجرد رؤية للمخرج فحسب. فكما هي حال لعبة كرة القدم، يجدر بنا أن نتساءل كيف سيكون أسلوب العرض. على أرض الملعب، كان المعلقون يشيرون دوماً إلى مدى اعتماد الفرق الوطنية الحديثة على مواهب المهاجرين: من شمال أفريقيا إلى فرنسا، ومن بولندا وتركيا إلى ألمانيا، وهلم جرا. إن بالوتيلي ينتمي إلى أسرة غانية؛ والهدف الذي سجلته ألمانيا في هذه المباراة كان بقدم مسعود أوزيل الذي ينتمي إلى الجيل الثالث من أسرة مهاجرة من تركيا.وعلى نحو مماثل، تعكس الأوبرا مشاكل أوروبا المعاصرة. وبينما تنغمس أوروبا في المهرجانات الموسيقية الصيفية، فعلينا أن نلقي نظرة على الموسيقيين. إن قِلة ضئيلة منهم أوروبيون. وكان المغنيان الرائعان اللذان قاما بدور الأخوين سيجفريد في نسخة ميونيخ من الأوبرا من أميركا الشمالية. لقد تحول الغناء إلى مجرد نسخة أخرى من عملية العولمة، ويبدو أن الأوروبيين يخسرون الأرض هنا أيضا.قبل جيل واحد، عندما استضافت إيطاليا بطولة كأس العالم لكرة القدم، كانت المباريات تفتتح بصوت مغني التينور الإيطالي العظيم لوتشيانو بافاروتي، الذي أثبت بوضوح ومعه اثنان من الإسبان، خوسيه كاريراس وبلاسيدو دومينجو، "عظماء التينور الثلاثة"، أن الغناء كان أحد مواطن القوة في القارة العجوز. ولكن رائدي التينور اليوم -رولاندو فيلازون، وخوسيه كيورا، وخوان دييجو فلوريز- كلهم من أميركا اللاتينية. والعديد من مغنيات الأوبرا- آنا نيتريبكو، وإلينا جارانسيا، وأنجيلا جيورجيو، ومجدلينا كوزينا، وألكسندرا كورزاك- ترجع أصولهن إلى دول شيوعية سابقة، وبعضهن الآخر من آسيا. والواقع أن الجيل الجديد من المغنين مجرد غيض من فيض من الأصوات الغنائية العالمية. (كانت المغنية الأكثر شعبية وكاريزمية في أوبرا ميونيخ هي الروسية المولد آنا فيروفلانسكي).ولا يكمن تفسير هذه الحال في التدريب المهني بالمعاهد الموسيقية أو في فُرَص اكتساب الخبرة على المسرح. ففي المجالين لا تزال أوروبا تحتل مرتبة عالية بين الدول. وتُعَد المسارح الصغيرة الممولة من القطاع العام وسيلة ممتازة يبدأ بها المغنون الشباب حياتهم المهنية، والواقع أن المغنين الشباب يتدفقون من أميركا وروسيا على ألمانيا وإيطاليا.إن التفسير الأقرب إلى المنطق للانحدار الأوروبي في هذا المجال أكثر وضوحا، ولكنه أيضاً أكثر إثارة للانزعاج. فهو يكمن في مزيج من عولمة المواهب وارتفاع مستويات التعليم خارج أوروبا. فقد أحبِط الأوروبيين الشباب بفعل قوة وشدة المنافسة العالمية التي يواجهونها، فتبخر لديهم الدافع وروح المغامرة.وخارج أوروبا الغربية ظهرت أجيال من المغنين الشباب الذين هم على استعداد لبذل التضحيات اللازمة لتطوير أنفسهم بنجاح. وعلى النقيض من هذا، يشعر الموسيقيون الأوروبيون الشباب ببساطة بالارتياح والرضا عن بذلهم القدر الواجب من الجهد في تنمية قدراتهم. والواقع أن هذا النوع من الفشل قد يتصل بمصير اليورو بقدر ما يتصل بمستقبل الأوبرا الأوروبية.* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، وهو مؤلف كتاب "خلق وتدمير القيمة: دورة العولمة".«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
شَفَق اليورو
09-08-2012