لي في عالم الكتابة الصحافية قرابة العشرة أعوام، كتبت خلالها مئات المقالات، في شتى الموضوعات والمجالات، كنت كتبتها بمختلف المزاجات والحالات النفسية، ما بين فرح وحزن وغضب ورضا وتفاؤل وتشاؤم وغيرها. وكان فيها الجيد وفيها ما هو دون ذلك بطبيعة الحال، وكان فيها ما كنت وما زلت راضياً عنه تماما، وما هو دون ذلك أيضا. لكنني وطوال هذه السنوات، التي تبدو لي الآن وكأنها ساعة من نهار، لم أواجه وقتا أجد فيه نفسي بعجز عن الكتابة كما أشعر بذلك الآن. صحيح أني قد توقفت عن الكتابة لبعض من الوقت ولعدة مرات خلال مسيرتي لأسباب متفرقة، إلا أنه لم يكن منها أبدا ما ارتبط بالشعور بعدم الرغبة في الكتابة بسبب العجز عن الإتيان بشيء يقنعني، كما أشعر هذه الأيام! يظن البعض، وقد كنت من هؤلاء لزمن طويل، أن الكاتب بحاجة فقط إلى "الفكرة" ليتمكن من تحويلها إلى مادة مكتوبة، سواء على هيئة مقال أو غير ذلك، لكنني اليوم أصبحت أؤمن تماما أن الأمر يحتاج لأكثر من ذلك بكثير، فالفكرة وحدها لا تكفي الكاتب كي يكتب، بل لعلي أزيد أن الكاتب المحترف يصبح مع كثرة المران والمراس قادرا على رؤية الأفكار في أبسط الأشياء من حوله، والأفكار ملقاة على قارعة الطريق كما قال الأول، وكل ما تحتاجه عين مدربة على الرؤية والالتقاط. قد تكون الأفكار كثيرة حول الكاتب لكنها تظل مع ذلك كالمواد الخام الخاملة غير القادرة على التحول والتشكل إلى أي هيئة ذات معان ودلالات مميزة بالنسبة إليه. وسأعترف لكم هنا بأن الكاتب المخضرم يستطيع أن ينتج شيئا من هذه الأفكار لو هو أراد، لكن النتاج سيكون غالبا نتاجا إنشائيا تقريريا خاليا من التميز والإبداع، تماما كخلو الأطعمة المعلبة الجاهزة من النكهة الحقيقية التي لا يمكن أن تنتج إلا من يد طباخ ماهر. الكاتب بحاجة إلى شيء أشبه ما يكون بالاشتعال الداخلي كي يستطيع الامتزاج بفكرة ما، سواء أكانت هذه الفكرة بسيطة أم معقدة، فيتفاعل معها لينتج عن هذا التفاعل شيء يحمل ملامح فكره وأسلوبه ونفسه، شيء يمثله، أو بعبارة أخرى، يكون انعكاسا حيا له على الورق، وهذا الاشتعال بدوره لا يمكن أن يحصل ما لم يوجد الكاتب في الحالة النفسية الملائمة لذلك. ولا أعني هنا طبعا حالة نفسية بعينها، لأن هذه تحتمل أن تكون على أشكال مختلفة، من فرح وحزن، أو من تفاؤل وتشاؤم، أو من غير ذلك. لهذا فسرّ الكتابة، بالنسبة إلي على الأقل، هو أن يوجد الكاتب في الحالة النفسية المناسبة عند ورود الفكرة، حتى يمكن أن ينتج عن ذلك شيء صالح للقراءة. قد تصل فكرة بديعة إلى ذهن كاتب فتسقط عنه وكأنها اصطدمت بجدار أصم لمجرد أنه لم يكن في الحالة النفسية المناسبة، وفكرة أبسط من ذلك قد تصل إلى ذهنه وهو في الحالة النفسية المناسبة، فيتفاعل معها ويمتزج بها وينتج عن ذلك شيء رائع. لهذا يتبادر سؤال هنا: هل يحق للكاتب الصحافي أن يتوقف عن الكتابة، لبعض من الوقت، يطول أو يقصر، بهذه الذريعة، أي بذريعة أنه لا يجد في الأفكار التي من حوله ما يثير في نفسه ذلك الاشتعال الذي ينتج عنه ما سيكون عنه راض أم أن عليه أن يستمر في الكتابة، ولو بالطريقة التقريرية الإنشائية في مختلف الظروف، حتى يكون موجودا أمام القراء؟ هذا السؤال لا أظن أن له إجابة واحدة يمكن أن يتفق عليها، وأعتقد أنه سيكون مجالا لاختلاف، لكنني سأظل شخصيا أحرص، بقدر ما أستطيع، على عدم الكتابة ما لم أكن أشعر بأني سأنتج شيئا أكون عنه راضياً بقدر معقول.
مقالات
… سر الكتابة
21-07-2012