صار جدلنا بايخ ... وجشعنا مُقرف
ظاهرة منتشرة في البلد ويلحظها الجميع بوجود عدة مشاريع متوقفة عند مرحلة معينة من البناء والإنجاز لفترات زمنية طويلة دون أن تكتمل، وعندما تستفسر عن سبب ذلك تكتشف أن هناك خلافاً بين وزارة الأشغال العامة والمقاول، تطور إلى القضاء، والمشروع مجمد لأن الخلاف منظور أمام المحاكم.هذه الظاهرة النادرة في دول الخليج من حولنا وفي العالم أيضاً، ليست لدينا هنا بلا جذور ولا أسباب، فالمجتمع الكويتي أضحى مجتمعاً أو بيئة مبالغة في التقاضي والنزاعات القانونية، التي تعكس تغييراً سلوكياً خطيراً لدى الكويتيين نحو الميل إلى الجدل والاستحواذ والجشع، الذي يظهر بشكل هائل في حالات رفع القضايا أمام المحاكم المكتظة جداولها بالآلاف من القضايا الناتجة عن فشل محاولات التسوية والتنازل لتحقيق صلح يمنع المتخاصمين من الوصول إلى قاعات القضاء.
وفي مناسبة قريبة وصف المؤرخ مطلق الوهيدة المجتمع الكويتي قبل أكثر من نصف قرن بأنه مجتمع ودود ومتراص وسهل المعشر وقنوع ومتكافل ويحب الستر، فما الذي حولنا وجعل أغلبنا في السنوات الأخيرة يملؤه الجشع والصراع على الدينار، والجدل والتخاصم، وحب الفضائح ونشرها بدل الستر، والكل يريد من الآخر كل ما لديه، نتصارع ونتقاتل على المصلحة الخاصة والموقع والمنصب، حتى لو كان على حساب بلدنا، فذلك المقاول الذي ربح المليارات من الكويت من أجل بضعة آلاف من الدنانير مستعد لأن يجادل ويتخاصم ويشوه عاصمة بلده بوقف مشروع سنوات طويلة دون أن يؤنبه ضميره، وذلك المتنفذ الذي يعطل مشروعاً وطنياً ضخماً ليضمن نصيبه منه، سواء كان ذلك بالحق أو الباطل، ولديه جوقة من المفكرين والاقتصاديين الذين يستخدمهم لتبرير أفعاله الجشعة والمخربة، والناس تحترمهم دون أن تعرف حقيقة وأغراض توظيفهم، وذاك السياسي الفاسد الذي يخوض معارك في ظاهرها المصلحة العامة وفي باطنها مبتغى حفظ مصالح فئة معينة في ثروة البلد والأعمال والمناصب التي تحقق ذلك، وحتى الأعمال الخيرية للبعض تميل إلى "الشو" والمبالغة في وضع الأسماء عليها، رغم قيمها المتواضعة مقارنة بحجم الثروات الخاصة في البلد، وغالباً ما تكون مرتبطة بأهداف سياسية وانتخابية.الكويت أنهكت في معارك المصالح والمال، وخربت القيم، واستخدمت أرذل الأدوات لتهيج الانتماءات المجتمعية والطائفية والقبلية للفوز بتلك المعارك، وبسببها أصيب النسيج الاجتماعي في مقتل، وخربت صلات الأسر وسلوكيات الأفراد، ورغم ذلك فإن من كنز المليارات مازال في غيه ولعبته المميتة لا يملأ عينيه شيء، ولا يتعظ من أقرانه مكتنزي الأموال الذين خطفهم الموت في لحظات، ومرت الأيام والشهور عليهم ونساهم البلد، وجاوروا في قبورهم أفقر الناس. وللأسف فإن الكويت بعد التحرير أصبحت تغص بهؤلاء ممن يحيكون المؤامرات ليجنوا المزيد من المال الذي أصبح لديهم فائضاً بلا قيمة، ولم يتعلموا القيمة الاجتماعية والإنسانية لوجودهم، ولم يتعلموا بعد من "مليارديرية الإنسانية" السيدين وارن بافيت وبيل غيتس اللذين تخليا عن أغلب ثروتهما لمصلحة المشاريع الاجتماعية، ويطالبان حكومتهما بزيادة الضرائب على الأغنياء!في هذه الأجواء السلبية في الكويت، التي تحفها حالة النزاعات والجدل المؤذي، لم يكن غريباً بحث الكويتيين عن حدث يجمعهم، وكان حادث المرحوم سمير سعيد هذا المواطن القدوة في عمله الرياضي، وتواضعه وتسامحه في عمله التجاري، هو الحدث الموحد للكويتيين الذين يعانون مخاطر تمس استقرار مجتمعهم، والسلم الأهلي بين مكوناته، فأعطاهم ذلك الحدث أملاً في مخرج من هذا الواقع المؤلم إلى رحاب العودة إلى روح وقيم الزمن الجميل، ونهاية جدلنا "البايخ" وجشعنا "المقرف".***في الأسبوع الماضي وفي مفارقة عجيبة، وبعد أن مررت بمشروع كبير متوقف بسبب خلافات مالية، توقفت بأحد المقاهي القريبة من سوق السلاح، فكان ذلك المسن المتقاعد جالساً يرتشف "استكانة" الشاي، وعلى وجهه علامات السكينة والرضا، وصديقه يقول له "ما نزلوا الزيادة مع المعاش..." فرد عليه بكل هدوء وقناعة "كيفهم"... وفي المقابل تصورت أن في أحد الأبراج التي تحيط بنا هناك متنفذاً في مكتبه الفاخر يلهب الهاتف بالاتصالات مع نواب ووزراء ومسؤولين ومحامين، لأنه لم يحصل على مناقصة، ومستعد لأن يشعل البلد بالأزمات بسببها، وفي مبنى قريب آخر هناك عشرات من الموظفين يخططون لإضراب للحصول على كوادر مالية، رغم أنهم لم ينتظموا في عملهم منذ عدة أشهر!