رغم ما تخللها من عنف تمثل في الحصار، الذي فرضته "ميليشيات" الإخوان المسلمين على المدينة الإعلامية، والذي تمثل أيضاً في حَرْق مقر حزب "الوفد" ومقر صحيفته على أيدي "بلطجية" هذه المليشيات، فإن الجولة الأولى للاستفتاء على الدستور، بغض النظر عن نتائجها، قد أظهرت أن الثورة الحقيقية التي باتت تعيشها مصر هي ثورة اجتماعية وثقافية وحضارية، فهناك الذين يشدون إلى الخلف والذين يصرون على التخندق في مفاهيم "الغول والعنقاء"، وفي اتجاه آخر هناك الذين يدفعون إلى الأمام للحاق بمسيرة القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة.
ولعل ما يشير إلى أن هذا الصراع الاجتماعي المحتدم الآن في مصر سيعم لاحقاً، ولو بعد عشرة أعوام أو عشرين عاماً، المنطقة كلها، ولن تَسْلم منه إلا الدول التي قطعت الطريق على هذه الحتمية التاريخية باستقبال مستجدات هذه المرحلة كخيار طوعي، أنَّ هناك في تونس أيضاً ثورة اجتماعية فعلية وحقيقية، وأن هناك صراعاً، نتمنى ألا يغْرَق في العنف والدماء، بين اتجاهٍ رجعيٍّ يريد حشر العباد والبلاد كلها في مفاهيم عفى عليها الزمن، واتجاه ليبرالي (تحرري) وعلماني يريد استكمال المسيرة السابقة التي، رغم النمط الاستبدادي والنزعة الفردية لقيادتها، قد أوصلت هذا البلد إلى الوقوف على الأرضية نفسها التي تقف فوقها الدول المتقدمة.وهنا، وهذا لابد من التأكيد عليه، فإن الإسلام كدين عظيم ورسالة سماوية سمحة، لا علاقة له بهذه المواجهة ولا بهذا التطاحن، فالإسلام في تركيا، بفضل القيادة المُستنيرة والواعية و"المثقفة"، يتعايش الآن مع العلمانية، وهنا أيضاً فإنه لابد من التأكيد على أن العلمانية المقصودة هي أنْ توفِّر الدولة لمواطنيها حرية المعتقد والرأي، وأن توفر لهم أيضاً إمكانية ممارسة هذا المعتقد وحرية التعبير عن هذا الرأي.لقد آن الأوان، فهذه المنطقة من مآسيها أنها حُشرت بدءاً مما بعد الحرب العالمية الأولى حشراً بين تيارين، أحدهما اندفع بعيداً في عملية "الاغتراب" الثقافي، إلى أن أصبحت حاله كحال ذلك الغراب، الذي أراد تقليد مشية الحمامة فلم يستطع، وفي الوقت نفسه نسي مشيته الأساسية، في حين أن التيار الثاني لم يجد ما يواجه به الموجة التغريبية التي غشت المنطقة كلها بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية إلا الانكفاء والانعزال والتمسك بالجوانب المظلمة من الماضي، وهذا لا علاقة له بالإسلام العظيم كدين سماوي، رغم أن هؤلاء الرجعيين اجتماعياً قد حاولوا مواجهة الآخرين برفع بعض شعاراته.ولهذا فإن ما يجري في مصر وما يجري في تونس والذي من المؤكد أنه، مهما طال الزمن، سيجري في دولٍ عربية أخرى لا يمكن تقزيمه بالحديث عن مواجهة بين "الثوار" الذين تمكنوا من إسقاط الأنظمة "الديكتاتورية" السابقة وبين فلول هذه الأنظمة، فحقيقة الأمر أنه بعد تأخُّرٍ نحْو قرن كامل كان لابد من ثورة اجتماعية للفرز بين أدبياتٍ ومفاهيم لم تعد تصلح لهذه المرحلة وأدبياتٍ ومفاهيمٍ لا تقبل الاستمرار بالتخندق في الخنادق القديمة.
أخر كلام
بانتظار ثورة اجتماعية شاملة!
17-12-2012