يبقى "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي من أكثر الكتب التراثية إثارة للجدل المتجدد والمناورات اللامنتهية. وأعتقد بأن السر وراء ذلك يكمن في موضوعه الإنساني الحي المتعلق بالحب وأحواله من جهة، وفي أسلوبه الفني السلس المتشح برداء الأدب والشعر من جهة أخرى.

Ad

ولعل جناحي هذا الكتاب وهما جانبه الأدبي بشروطه الجمالية والبلاغية، وجانبه الثقافي برسالته المعرفية الإنسانية أعطيا هذا المؤلَّف ثراءه ومساحاته الشاسعة وتجدده عبر القراءات المتعاقبة. إذ على الرغم من ثراء الخطاب الثقافي وغنى مادته وتفريعاتها المعرفية في "طوق الحمامة"، فإن الدارس لا يستطيع أن يتجاهل نيّة مؤلِّفه (ابن حزم) في إسباغ الثوب الأدبي على نصه، والتمسّح بجماليات الخطاب الأدبي وشعريته، وهي نزعة تبدو جلية، إن لم تكن متعمَّدة وشديدة الحضور.

ولنا أن نتلمّس أسباب هذا الميل الجمالي والشعري في نص يتأسس في الدرجة الأولى على المنهجية الفكرية والعلمية، وهي أسباب دانية ولها دوافعها الظرفية ذات الصلة بطبيعة العصر، وشروط التلقي، وأعراف المؤسسة الثقافية حينذاك (أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الميلادي). ويأتي على رأس هذه الأسباب عادة وعُرف التوسّل والتوشّح بما هو أدبي/جمالي لتسويغ وتسويق الرسالة الثقافية، والتلطيف من رصانتها. والرسالة الثقافية المرادة في "طوق الحمامة" هي موضوع (الحبّ) و "صفته ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة". أما ثاني الأسباب، فهو اعتقادنا بأن شروطه الأدبية المتمثلة بالجمالية والبلاغية والأسلوبية والشعرية والمجاز والخيال... إلخ، تظل في عُرف المؤسسة الثقافية أعمدةً ومداميك تسند المنتج الثقافي، وتعدّ أهم دروعه التي تجنبه الابتذال والخفة والهامشية، وتقيه خطر الانزلاق نحو ما ليس راقياً، أو ما لا يحمل صفة الرقيّ من المصنفات والكتابات.

ويمكن، اعتماداً على هذا التصور في فرز النتاج التأليفي عصرئذٍ، أن نفهم حرص ابن حزم الشديد على تمرير موضوع بحثه حول الحب، تحت عباءة الأدبي البلاغي، وذلك بسبب حساسية الموضوع وحميميته، وارتباطه بالتابوهات والمحاذير، الأمر الذي يزيد من احتمال ابتذاله والاستخفاف به، لو لم يُحصَّن بشروط الأدبية والبلاغية.

ولعل من المناسب في هذا السياق، وأمام إشكالية سؤال "الأدبي" و"الثقافي"، أن نسوق تصورنا لما هو "أدبي/جمالي" في "الطوق"، وما هو ثقافي عام، وذلك من خلال تقصي عناصر كل منهما، والتعرّف على ملامحهما في تضاعيف النص.

أول عنصر من عناصر الأدبي/الجمالي في "الطوق" يتمثل في توظيف الشعر، رغم أن كتاب "طوق الحمامة" لم يكن في أصله كتاباً في الشعر أو حوله أو عنه، بقدر ما كان كتاباً لرصد حالة من حالات النفس الإنسانية وهي "الحب"، وصفاته ومعانيه وأعراضه وأسبابه. ويأتي رصد هذه الحالة النفسية الإنسانية من زاوية علمية ميدانية، معتمدة على الشواهد والملاحظة، وجمع البيانات (الأخبار)، وقياس المتشابهات، وصولاً إلى النتائج.

وقد يتساءل المرء، مادام الموضوع يسير في هذه المسارب العلمية الموضوعية، ما علاقة ذلك بالشعر؟! والإجابة قد نجدها في ما سبقت الإشارة إليه، في الحديث عن تسويغ وتسويق الرسالة الثقافية وتمريرها من خلال عباءة وأزياء الأدبي/الجمالي، لتجنّب الفجاجة، أو خشيةً من الخفة والاستخفاف.

إن التمسّك بتلابيب الشعر واصطناعه وتنكّبه في "طوق الحمامة" أمر ناصع الوضوح. فابن حزم يتخذ من الشعر جسراً ومطيةً وواسطة لتثبيت وتأكيد جملةً من الحقائق النفسية حول آلية الشعور الإنساني ونمطيته وتواتره، وكونه حالة عامة وصفة للجنس الإنساني. لقد كانت الحقائق النفسية حول الحب وإثباتها هي عمود الأطروحة والهدف من إنشائها، أما الشعر فيأتي وسيطاً وخادماً لهذا الهدف. ورغم أن الشعر ليس هو جوهر الطرح أو الرسالة المرادة بعينها، فإن كثرة إيراده وتواتره، والإلحاح عليه – إذ يكاد يشكل نصف مادة الكتاب – أمر يؤكّد مسألة الإكبار والإجلال لما هو جمالي وبلاغي في توصيل ما هو ثقافي. وسواءً أجاء هذا الشعر لمسوغات وأسباب نفسية تخص المؤلف، أو صدر مسايرةً لأعراف التلقي الثقافي، فهو يظل يحمل ذات رسالة الشعر عامةً، وهي التعبير عن أحوال النفس، وتسجيل مواقف الشاعر من الحياة ومظاهرها وشخوصها بأدوات الجمالي والبلاغي المتعارف عليها.